تلاوة وتفسير سورة الشورى 11-16

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 11
- كان الحديث في الآيات السابقة عن حقيقة أن الله تعالى هو الخالق المدبّر لأمور الكون، وعن انحراف الناس باتخاذ أولياء من دونه، وعن بعض صفات الله تعالى، ثم قال سبحانه: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ....).
- مقاييس اللغة: (الْفَاءُ وَالطَّاءُ وَالرَّاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى فَتْحِ شَيْءٍ وَإِبْرَازِهِ). ففيه شقٌّ وإبرازٌ لما خفي لولا هذا الشق. وعن ابن عباس: (كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها) أي أنا الذي أحدثت هذه الحفرة والشق، فظهر الماء الذي كان مخفياً عنا.
- وكأن في الآية إشارة إلى أن هناك أصلاً لهذه السماوات والأرض، بحيث انشق وخرج عنه السماوات والأرض، وهو ما كان خافياً -غير متحقق- لولا هذا الانشقاق.
- جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا: من نفس النوع البشري، فهناك ذكر، وهناك أنثى، فجعل للذكور إناثاً، وللإناث ذكوراً، كي يستمر النسل، ويكون هناك توافق بين الزوجين وانسجام.
- وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا: ومن خلال ذلك استمر تناسل الأنعام، وتحققت الاستفادة من لحومها وألبانها وأصوافها وأوبارها وجلودها وظهورها.. إلخ. وواضح أن الآية في مقام المن، وبيان أنه وحده المستحق للألوهية والعبادة والطاعة من خلال الولاية الأصيلة.
- يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ: الذرءُ: بث الخلق وتكثيره.
- أي ومن خلال هذا الجعل للجنس الآخر (جَعْل الأزواج) يتحقق التكاثر واستمرار النسل
- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ: إن هذه القدرة، والخلاقية، والإبداع، والتدبير، والنعم العظيمة، كلها تدلّ على ذلك.
- قيل: الأصل: (ليس مثلَه شيء)، وأقحمت كاف التشبيه على (مِثل)، بينما هي والكاف بمعنى واحد... وما ذاك إلا لتأكيد النفي.
وقيل: (مثله) هنا تعني (ذاته)، فيكون المعنى: (ليس شبهَ ذاتِه شيءٌ) أو (لا شبيه لذاته).
- وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ:
1. الصفتان تدلان على تعلّق علمه بالموجودات.
2. نفي مثلية شيء له لا تعني نفي كل صفة موجودة في مخلوقاته عنه، فيشمل السمع والبصر، نعم لا مماثلة في السمع، ولا مماثلة في البصر، ولكنهما مثبَتان له سبحانه.
3. بعد أن جاء بصفة من صفات الجلال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، وهي الصفات التي نجل الله عنها، كالمثيل والجهل والظلم والضعف والموت، جاء بصفتين من صفات الجمال، وهي الصفات التي نثبتها له سبحانه: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ (12)
- لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ: وهذا من شئونه تعالى، فما دام أنه هو الفاطر المدبّر الوليّ، فلا بد أن تكون (لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ).
- المقاليد: جمع إقليد أو مِقْلاد، وهو المفتاح أو الخزينة نفسها. والمقاليد هنا كناية عن خيرات السماوات والأرض، شُبِّهت الخيرات بالكنوز، والمعنى: أنه وحده المتصرف بما ينفع النّاس من الخيرات.
- يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُ: جملة مبينة لقوله: (لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ)
- وبسط الرزق: توْسِعَته... وتقديره: كناية عن قلّته.
- إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ: كالعلة لقوله: {لِمَن يَشَآءُ}، أي أنّ مشيئته جارية على حسب علمه بما يناسب أحوال المرزوقين من بَسط أو قَدْر، فلا شيء عبثي.
- وسيذكر في الآية 27 واحدة من أسباب القَدْر: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).
- أي لو وسع الله الرزق على عباده، فأشبع الجميع، لظلموا في الأرض... كيف؟
- مِن طَبع سعة المال: الأشر والبطر والاستكبار والطغيان، كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق:6-7].
- ولذا، فإن الله تعالى رأفة بعباده يضيّق في الرزق أحياناً، لئلا تبلغ مستويات الطغيان عندهم ما لا يبقى معه شيء من الإيمان والخير والصلاح.
س: ولكننا نشاهد التوسعة في الرزق للبعض، ونشهد طغيان بعض الأثرياء، فلماذا يتحقق لهم التوسعة في الرزق؟
ج: هناك سنة أخرى حاكمة على هذه السنة، وهي سنة الابتلاء والامتحان، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال:28]، وسنّة أخرى هي سنة المكر والاستدراج، قال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران:178]، وقال: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:182-183].
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ 13
- انتقال من الامتنان بالنعم ذات الخصوصية المادية إلى الامتنان بالنعمة الروحية.
- شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ: معنى { شَرَعَ } جعل طريقاً واسعة، والمراد هنا: أن الله أوضح وبيّن للمؤمنين مسالك ما كلفهم به. ولذا قال لاحقاً: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) [21]، أي بيّنوا لهم من الدين أموراً بصورة مستقلة.
- وحيث كثُر إطلاقه على سنّ القوانين في الدين، لذا سُمّي مجموع القوانين الدينية بالشريعة، ومفرداته بالأحكام الشرعية.
- الدين عند الله واحد: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران:19]، (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [83-85].

والتعريف في { الدين } تعريف الجنس ، وهو يعمّ الأديان الإلهاية السابقة . و { من } للتبعيض .

والتوصية : الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به . ومعنى كونه شرع للمسلمين من الدّين ما وصَّى به نوحاً أن الإسلام دين مثل ما أمر بِه نوحاً وحضَّه عليه . فقوله : { ما وصى به نوحاً } مقدر فيه مضاف ، أي مثلَ ما وصَّى به نوحاً ، أو هو بتقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ مبالغة في شدة المماثلة حتى صار المِثل كأنّه عين مثله . وهذا تقدير شائع كقول ورقة بن نوفل : « هذا هو الناموس الذي أنزل على عيسى » .

والمراد : المماثلة في أصول الدّين مما يجب لله تعالى من الصفات ، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع ، وأعظمُها توحيدُ الله ، ثم ما بعده من الكليات الخمس الضروريات ، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر بدونها ، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أُودع مثله في دين الإسلام . فالأديان السابقة كانت تأمر بالتوحيد ، والإيمان بالبعث والحياةِ الآخرة ، وتقْوى الله بامتثال أمره واجتناب مَنْهِيّه على العموم ، وبمكارم الأخلاق بحسب المعروف ، قال تعالى : { قد أفلح من تزكّى وذكر اسمَ ربّه فَصلَّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا والآخرة خير وأبقى إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحفِ إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 14 19 ] . وتختلف في تفاصيل ذلك وتفاريعه .

ودين الإسلام لم يَخْلُ عن تلك الأصول وإن خالفها في التفاريع تضييقاً وتوسيعاً ، وامتازت هذه الشريعة بتعليل الأحكام وسدّ الذرائع والأمر بالنظر في الأدلة وبرفع الحرج وبالسماحة وبشدة الاتصال بالفطرة ، وقد بيّنتُ ذلك في كتابي « مقاصدِ الشريعة الإسلامية » . أو المراد المماثلة فيما وقع عقبه بقوله : { أن أقيموا الدين } إلخ بناء على أن تكون { أنْ } تفسيرية ، أي شرع لكم وجوب إقامة الدّين المُوحَى به وعدم التفرّق فيه كما سيأتي . وأيًّا مَّا كان فالمقصود أن الإسلام لا يخالف هذه الشرائع المسمّاة ، وأن اتّباعه يأتي بما أتت به من خير الدّنيا والآخرة .

والاقتصار على ذكر دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن نوحاً أول رسول أرسله الله إلى النّاس ، فدينه هو أساس الدّيانات ، قال تعالى :

{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] ولأن دين إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب ، وكانوا على أثارة منه في الحجّ والختان والقِرى والفتوة . ودين موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام ، وأما دين عيسى فلأنه الدّين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر ، وليتضمنَ التهيئةَ إلى دعوة اليهود والنصارى إلى دين الإسلام . وتعقيب ذكر دين نوح بما أُوحي إلى محمّد عليهما السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان ، فعطف على أول الأديان جمعاً بين طَرفيْ الأديان ، ثم ذُكر بعدهما الأديانُ الثلاثة الأخَر لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها . وهذا نسج بديع من نظم الكلام ، ولولا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده } [ النساء : 163 ] وقوله : { وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح } الآية في سورة [ الأحزاب : 7 ] .

وذكرَ في « الكشاف » في آية الأحزاب أن تقديم ذِكر النبي صلى الله عليه وسلم في التفصيل لبيان أفضليته لأن المقام هنالك لسرد من أخذ عليهم الميثاق ، وأما آية سورة الشورى فإنّما أوردت في مقام وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنّ الله قال : شرع لكم الدّينَ الأصيل الذي بعث به نوحاً في العهد القديم وبعث به محمداً صلى الله عليه وسلم في العهد الحديث ، وبعث به من توسط بينهما .

فقوله : { والذي أوحينا إليك } هو ما سبق نزوله قبل هذه الآية من القرآن بما فيه من أحكام ، فعطْفُهُ على ما وصَّى به نوحاً لما بينه وبين ما وصَّى به نوحاً من المغايرة بزيادة التفصيل والتفريع . وذكرُه عقب ما وصّى به نوحاً للنكتة التي تقدمت .

وفي قوله تعالى : { ما وصى به نوحاً } وقولِه : { وما وصينا به إبراهيم } ، جيء بالموصول { ما } ، وفي قوله : { والذي أوحينا إليك } جيء بالموصول { الذي } ، وقد يظهر في بادىء الرأي أنه مجرّد تفنّن بتجنب تكرير الكلمة ثلاثَ مرات متواليات ، وذلك كافٍ في هذا التخالف . وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلافُ لغرض معنويّ ، وأنه فَرق دقيق في استعمال الكلام البليغ وهو أن { الذي } وأخواته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يُعيَّن بحالة معروفة هي مضمون الصلة ، ف { الذي } يدلّ على معروف عند المخاطب بصلته .

وأمّا { مَا } الموصولةُ فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى : { إنَّ الله نعِمَّا يَعِظُكم به } [ النساء : 58 ] عند الزمخشري وجماعة إذ قدّروه : نعم شيئاً يعظكم به . ف { ما } نكرة تمييز ل ( نِعْم ) وجملة { يعظكم به صفة لتلك النكرة . وقال سيبويه في قوله تعالى : { هذا ما لديَّ عتيد } [ ق : 23 ] المراد : هذا شيء لدي عتِيد ، وأنشدوا :

لِمَا نافعٍ يسعَى اللبيبُ فلا تكُن *** لشيء بَعيدٍ نفعُه الدّهرَ ساعيا

أي لشيء نَافع ، فقد جاءت صفتها اسماً مفرداً بقرينة مقابلته بقوله : لشيء بعيد نفعه ، ثم يعْرِض ل { مَا } التعريفُ بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملةٍ فتعرفت بصفتها وَأشْبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها ، ولذلك كثر استعمال { ما } موصولة في غير العقلاء ، فيكون إيثار { ما وصَّى به نوحاً } و { ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } بحرف { ما } لمناسبة أنّها شرائع بَعُد العهدُ بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالاً فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها ، وأما إيثار الموحَى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم باسم { الذي } فلأنه شرع متدَاوَل فيهم معروفٌ عندهم . فالتقدير : شرع لكم شيئاً وصَّى به نوحاً وشيئاً وصَّى به إبراهيم وموسى وعيسى ، والشيءَ الموحى به إليك . ولعل هذا من نكت الإعجاز المغفول عنها . وفي العدول من الغيبة إلى التكلم في قوله : { والذي أوحينا إليك } بعد قوله { شرع لكم } التفات .

وذُكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل { وصى } وفي جانب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فعل الإيحَاء لأن الشرائع التي سبقت شريعةَ الإسلام كانت شرائع موقتة مقدّراً ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه ، وليقع الاتصال بين فعل { أوحينا إليك } وبين قوله في صدر السورة { كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } [ الشورى : 3 ] .

و { أنْ } في قوله : { أن أقيموا الدين } يجوز أن تكون مصدرية ، فإنّها قد تدخل على الجملة الفعلية التي فعلها متصرف ، والمصدرُ الحاصل منها في موضع بدل الاشتمال من { مَا } الموصولة الأولى أو الأخيرة . وإذا كان بدلاً من إحداهما كان في معنى البدل من جميع أخواتهما لأنها سواء في المفعولية لفعل { شرع } بواسطة العطف فيكون الأمر بإقامة الدّين والنهي عن التفرق فيه مما اشتملت عليه وصاية الأديان . ويجوز أن تكون تفسيريةً لمعنى { وصى } لأنه يتضمن معنى القول دون حروفه . فالمعنى : أن إقامة الدّين واجتماع الكلمة عليه أوصى الله بها كلَّ رسول من الرّسل الذين سماهم . وهذا الوجه يقتضي أن ما حُكي شرعه في الأديان السابقة هو هذا المعنى وهو إقامة الدّين المشروع كما هو ، والإقامة مُجملةٌ يفسرها ما في كل دين من الفروع .

وإقامة الشيء : جعله قائماً ، وهي استعارة للحرص على العمل به كقوله : { ويقيمون الصلاة } وقد تقدم في سورة [ البقرة : 3 ] .

وضمير { أقيموا } مراد به : أُمَم أولئك الرسل ولم يسبق لهم ذكر في اللّفظ لكن دل على تقديرهم ما في فعل { وصى } من معنى التبليغ . وأعقب الأمرُ بإقامة الدّين بالنهي عن التفرق في الدين .

والتفرق : ضد التجمع ، وأصله : تباعد الذوات ، أي اتساع المسافة بينها ويستعار كثيراً لقُوّة الاختلاف في الأحوال والآراء كما هنا ، وهو يشمل التفرق بين الأمة بالإيمان بالرّسول ، والكفر به ، أي لا تختلفوا على أنبيائكم ، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نِحَلاً وأحزاباً ، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها ، أي في أصوله وقواعده ومقاصده ، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدّين .

والمراد : ولا تتفرقوا في إقامته بأن ينشط بعضهم لإقامته ويتخاذل البعض ، إذ بدون الاتفاق على إقامة الدّين يضطرب أمره . ووجه ذلك أن تأثير النفوس إذا اتفقت يَتوارد على قصد واحد فيقوَى ذلك التأثير ويسرع في حصول الأثر إذ يصير كل فرد من الأمة مُعِيناً للآخر فيسهل مقصدهم من إقامة دينهم . أما إذا حصل التفرق والاختلاف فذلك مُفضضٍ إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف ، ثم هو لا يلبث أن يُلقِيَ بالأمة إلى العداوة بينها وقد يجرّهم إلى أن يتربص بعضهم ببعض الدوائرَ ، ولذلك قال الله تعالى : { ولا تَنَازَعُوا فتفْشَلُوا وتَذهَبَ ريحُكم } [ الأنفال : 46 ] .

وأما الاختلاف في فروعه بحسب استنباط أهل العلم بالدّين فذلك من التفقّه الوارد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم « من يُرِدِ الله به خيراً يفقِهْه في الدّين » .

{ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إليه } .

اعتراض بين جملة { شرع لكم من الدين } وجملةِ { وما تفرّقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم } [ الشورى : 14 ] . ولك أن تجعله استئنافاً بيانياً جواباً عن سُؤال مَن يتعجب من إعراض المشركين عن الإسلام مع أنه دين مؤيّد بما سَبق من الشرائع الإلهاية ، فأجيب إجمالاً بأنه كَبُر على المشركين وتجهموه و { كبر } بمعنى صعُب ، وقريب منه إطلاق ثقل ، أيْ عجزوا عن قبول ما تدعوهم إليه ، فالكبر مجاز استعير للشيء الذي لا تطمئن النفس لقبوله ، والكِبرُ في الأصل الدّال على ضخامة الذات لأن شأن الشيء الضخم أن يعسر حمله ولما فيه من تضمين معنى ثقل عدّي ب { على } .

وعبر عن دعوة الإسلام ب { ما } الموصولة اعتباراً بنُكران المشركين لهذه الدعوة واستغرابِهم إيّاها ، وعدِّهم إيّاها من المحال الغريب ، وقد كبر عليهم ذلك من ثلاث جهات :

جهة الداعي لأنه بشر مثلهم قالوا { أبعَث الله بشراً رسولاً } [ الإسراء : 94 ] ، ولأنه لم يكن قبْل الدعوة من عظماء القريتين { لولا نُزّل هذا القرآن على رجللٍ من القريتين عظيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .

وجهةِ ما به الدعوة فإنهم حسبوا أن الله لا يخاطب الرّسل إلا بكتاب ينزله إليه دفعة من السماء فقد قالوا { لن نُؤمن لِرُقيِّك حتى تُنزّل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا } [ الفرقان : 21 ] { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] والقائلون هم المشركون .

ومن جهة ما تضمنته الدعوة مما لم تساعد أهواؤهم عليه قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحداً } [ ص : 5 ] { هل ندُلُّكم على رجل ينبِّئكم إذا مُزِّقتم كلَّ مُمَزَّققٍ إنكم لفي خلققٍ جديدٍ } [ سبأ : 7 ] . وجيء بالفعل المضارع في { تدعوهم } للدلالة على تجدد الدعوة واستمرارها .

{ الله يجتبى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدى إِلَيْهِ مَن ينيب } .

استئناف بياني جواب عن سؤال من يسأل : كيف كبرت على المشركين دعوة الإسلام ، بأن الله يجتبي من يشاء ، فالمشركون الذين لم يقتربوا من هدى الله غيرُ مجتبَيْنَ إلى الله إذ لم يشأ اجتباءهم ، أي لم يقدر لهم الاهتداء . ويجوز أن يكون ردّاً على إحدى شبههم الباعثة على إنكارهم رسالته بأن الله يجتبي من يشاء ولا يلزمه مراعاة عوائدكم في الزعامة والاصطفاء .

والاجتباء : التقريب والاختيار قال تعالى : { قالوا لولا اجتَبَيْتَها } [ الأعراف : 203 ] . ومن يشاء الله اجتباءه مَن هداه إلى دينه ممن ينيب وهو أعلم بسرائر خلقه .

وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفِعلي لإفادة القصر ردّاً على المشركين الذين أحالوا رسالة بشر من عند الله . وحين أكبروا أن يكون الضعفة من المؤمنين خيراً منهم .


10/2/2023

لمشاهدة جميع الخطب المرئية اضغط هنا