خطبة الجمعة 3 شوال 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: من الجُب إلى العرش

- قال تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) [يوسف:15].
- قصة النبي يوسف (ع) من القصص العجيبة، كيف لطفل من الصحراء، يتم التآمر عليه من قبل عشرة أفراد أقوياء متضامنين على قلب واحد، فإذا به يغدو الرجل الثاني في دولةٍ عظمى، ويمتلك الإمكانات الكبيرة على مستوى إدارة البلاد، وعلى مستوى الإمكانات الشخصية: (كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف:21].
- الآية الشريفة التي بدأت بها كلامي تتضمن عدة رسائل مهمة، من بينها:
1. مهما كان تخطيط البشر محكَماً، ومهما وقع بينهم الاتفاق والتعاضد على أمرٍ ما، ومهما سعوا للحفاظ على سرّية مؤامرتهم، إلا أن ما خطّطوا له لن يتحقق إذا كان مخالفاً
لمشيئة الله، وستتحطّم كلُّ مؤامراتهم على صخرة الإرادة الإلهية.
أ) لقد كانوا أقوياء حتى عبّروا عن أنفسهم كالتالي: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف:8].
ب) مما يُحكِم المؤامرة أنها صادرة عن أقرب الناس إلى يوسف، وأبعد الناس احتمالاً أن يؤذوه، لاسيما باللحاظ العشائري والأسري الذي يَفترض التلاحم بين أبناء العشيرة والأسرة.
ج) ثم كانوا متفقين متضامنين وعلى قلب واحد: (وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ).
- ولكن ماذا كانت النتيجة؟ (كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) وكل هذا لأنّ في البين إرادة إلهية، ولذا تقول الآية الشريفة: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].
2. من شأن اليأس أن يدمِّر الإنسان، ويُعجِزُه عن فعل شيء.
- لاحظ المصابين بمرض الاكتئاب الشديد تجدهم طريحي الفراش، ثقيلي الحركة.. لماذا؟ لأنهم ينظرون إلى الحياة نظرة سوداوية، ولا يرون أية فائدة في أي شيء، ولا أمل عندهم.
- ولذا يقال أن الأمل هو أعظم رأسمال لمواصلة الحياة.
- من هنا، كان من الضروري في تلك اللحظات العصيبة والصعبة بالنسبة ليوسف (ع) أن يجد الأمل في المستقبل، وإلا لقتله اليأس ودمّر نفسيته.. ولذا يخبرنا الله تعالى أنه أوحى ليوسف بنحو من الإيحاء الغيبي أن الأمور ستتغير، وسيأتي اليوم الذي ستلتقي فيه مجدداً بإخوتك المتآمرين عليك، وستذكّرهم بجريمتهم: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)
3. في الأوقات الحرجة واللحظات الحساسة، يتنزّل المدد الإلهي على مَن كان مع الله.
- وهذا المدد قد يكون في حلّ المعضلة، وقد يكون في رفع الموانع، وقد يكون بتسخير الأمور لصالح أولياء الله، وقد يكون مدداً معنوياً، ولكلٍّ من هذه العناوين أهميتُه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).
4. لا ينال الإنسان المقامات الرفيعة والدرجات العالية إلا بعد الاختبار والابتلاء والتمحيص، والخروج منها بنجاح: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
- لم يكن ليوسف أن ينال النبوة والدرجة الرفيعة عند الله تعالى، وأن يخلد ذكرُه في العالَمين، فتجد قصته مفصلة في القرآن، وفي التوراة، إلا بعد تعرضه لتلك الابتلاءات.
- قصة يوسف (ع) جرت قبل قرابة 3500 سنة، وما زال الناس على اختلاف أديانهم وأعراقهم يسمّون أبناءهم بهذا الاسم.. هذا نوع من الخلود في الدنيا.
5. على الإنسان أن لا يركن إلى ظاهر الأمور، فقد يوحي لك الظاهر أن الأمور تسير في اتجاهٍ ما، ولربما يكون هذا الاتجاه متناغماً مع ما تحب، أو على خلاف ذلك، ثم تتفاجأ بتغيّر مسارها إلى اتجاه آخر، فالحياة لا تسير على نسق واحد.
- إخوة يوسف كانوا يتصورون أنهم نجحوا في مؤامرتهم، وتخلصوا من يوسف... ولكن الحقيقة أنهم سيتفاجأون بعد سنوات أن ذلك التصور كان باطلاً، وأن مآلات الأمور جاءت على خلاف الظاهر، فبعد غيابة الجب، صار يوسف على العرش، وكانوا وقوفاً على الجب ينظرون إليه من علوّ، فإذا بهم تحت عرشه (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) [يوسف:100].
- وكما كان الأمر بالنسبة إلى يوسف (ع) مع إخوته، عاش النبي (ص) في العهد المكي تحت ضغط عُصبة المشركين ومؤامراتِهم، وهم أقرب الناس إليه، حتى صاروا يداً واحدة في محاربتِه، في حين أنهم كانوا أكثرَ الناس معرفةً بشخصِه الكريم، وأخلاقِه النبيلة، وصدقِه الذي لا يُدانيه صِدق... وتدحرجت الأوضاعُ العصيبةُ إلى حدّ الوقوعِ في حصارٍ ظالمٍ لمدة ثلاث سنوات، بعد أن كتبوا فيما بينهم وثيقةَ المؤامرة... واشتدّت المحنة، وتآلب المتآمرون على اغتيال النبي... وعندما بدت الأمور وكأنها تسير في اتجاهٍ مظلمٍ لا مخرج منه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) فإذا بالمدد الإلهي يتنزّل، بعد ابتلاءات وابتلاءات، في مكة والمدينة، إلى أن جاء اليوم الذي دخل فيه رسولُ الله (ص) مكةَ، عزيزاً منتصراً، وغدا أعداؤه من المشركين أذلاءَ صاغرين.. لقد جاء نصرُ الله والفتح، ودخلَ الناسُ في دينِ الله أفواجاً.. وكتب الله الخلودَ لنبيه في الدنيا والآخرة... هكذا كان وعدُ الله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]. واليوم في ظلِّ كلِّ المؤامرات التي حيكت وتُحاك ضد القضية الفلسطينية، من أباعد الناس وأقربهم انتساباً إليها، ومع كل التعاضد لإحكام تنفيذها، وكل الإمكانات التي سُخِّرت لإنجاحها، إلا أن لدينا من الأمل والثقةِ بوعد الله تعالى، والبصيرةِ بمآلات الأمور، أنّ الله لن يُضيعَ أولياءَه الصابرين المجاهدين، وها هي تباشير النصر تلوحُ في الأفق، وقد غرق الصهاينةُ -في نظر العالم- في وحول الخزيِ والعار، وبات الإعلام الصهيوني يتحدث عن خسارة عنوانها: صفر زائد صفر ضرب صفر يساوي صفر.. هذه هي نتيجة العدوان، وصدق ربُّنا القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]... (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) [النساء:122].

4/12/2024

لمشاهدة جميع الخطب المرئية اضغط هنا