خطبة الجمعة 17 شوال 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: النفور من الدين

- قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم:30].
- تُرشدنا هذه الآية الشريفة إلى أنّ دينَ الله متناغمٌ مع فِطرة الإنسان، الفطرة التي فطره اللهُ عليها. أي أن خالق الإنسان جعل للإنسان ما يناسبه من الدين.. فلماذا تنفر وتبتعد شريحةٌ من الناس عن الدين؟
- الأسباب عديدة وسأطرح بعضاً منها:
1) تقديم الدين بصورة خاطئة، أو مشوّهة.
- فعندما يتمّ الحديث عن تطبيق الشريعة، فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن: عقوبات قطع اليد، والرجم، والجَلد، وما إلى ذلك... فهل هذا هو المقصود من تطبيق الشريعة؟
- أبداً... هذا آخر اهتمامات الشريعة، فالشريعة تسعى إلى أنْ يتوبَ الإنسان بينه وبين ربِّه، وأن يُصلح الإنسان ما أفسد، وأن يعفو الناس عن بعضهم البعض... وأما العقوبة فتأتي ضمن ضوابط خاصة ودقيقة جداً.
- وقد تحدّثت قبل سنوات عن هذا الموضوع بالتفصيل، ولربما أعيد لاحقاً طرح الموضوع مجدداً لأهميته وحساسيته.. والسؤال: لماذا حصل ذلك التبادر؟
- لأن بعض الخطاب الديني الفاشل من خلال المنابر والمؤلفات عمل على تقديم الدين من هذه الزاوية... وبعض التطبيق العملي أيضاً عمل على تقديم الدين من هذه الزاوية وذلك من خلال تجربة داعش وأخواتها، وكذلك من قبل بعض الأنظمة المعاصرة التي بمجرّد أن ادّعت أنها تريد تطبيق الشريعة، سنّت قوانين العقوبات.
- تطبيق الشريعة يعني تطبيق العدالة: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25].
- تطبيق الشريعة يعني إحقاق الحقوق: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26].
- تطبيق الشريعة يعني نشر وترسيخ العمل الصالح: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) [الحج:41].
- تطبيق الشريعة يعني التشجيع على التنمية في أبعادها العمرانية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61]، يقول العلامة الطباطبائي: (أعمرتُه الأرض واستعمرتُه إذا فوَّضتَ إليه العِمارة... فالعِمارةُ تحويلُ الأرضِ إلى حالٍ تصلُحُ بها أن يُنتَفعَ مِن فوائدِها المترقبةِ منها، كعِمارةِ الدارِ للسُّكنى، والمسجدِ للعِبادة، والزرعِ للحَرث، والحديقةِ لاجتناءِ فاكهتِها والتنزّهِ فيها).
- بالطبع، لا أبرّيء أعداءَ الدينِ مِن دورِهم المتعمدِ في تشويهِ صورةِ الإسلام.
2) تقديم الدين بصورة غير مناسبة، وذلك عندما لا نلاحظ بعض الخصوصيات لدى المخاطَب مثلاً... فليس كلُّ ما يُعرَف يُقال، لأنَّ المستمِعَ قد لا يستوعب خصوصيات المسألة، مما قد يعرّضه لردّة فعل سلبية.
- يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ) [المائدة:101-102].
- هناك أمور لا يستوعبها كلُّ الناس، وهناك أمور لا يتحمّلها كلُّ الناس، وهناك أمور تُنفِّر بعضَ الناسِ من الدين، فلماذا الإصرار على طرحِها، والحال أن ربَّ العالمين يُرشدنا في الآية السابقة إلى أن نمتلك الحكمةَ في تقديم الدين.
- في مشاركتي الأخيرة في مؤتمر يتعلق بأربعين الإمام الحسين (ع) كانت ورقتي عن (أدب الطفل العربي في خدمة الثقافة الحسينية) ومن بين ما ذكرته أننا قد نَصدم الطفل في علاقته بالدين من خلال سوءِ تقديمِنا لبعضِ مُفرداته دون قصد.. والأمثلة عديدة.
- مثال ذلك أن أدب الطفل المعاصر حبَّب الحيوانات إلى الأطفال بشكل كبير، ومنها الفيل، وهو ما أدى إلى احتجاج بعض الأطفال على ما يذكره بعض المعلمين وفي بعض المؤلفات الدينية للأطفال من أن الله تعالى قتل الفيلة في قصة أبرهة، لاسيما بلحاظ أن
الفيل حيوان لا عقل له، فلماذا يعاقبه الله ويقتله بتلك الصورة العنيفة؟
- المفارقة أن الآية الشريفة تقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [الفيل:1].. أي الآية لم تتحدث عن قتل الفيلة... عدم ملاحظة ذلك قد تترك أثراً سلبياً من حيث لا ننتبه.
- وللكلام تتمة بإذن الله تعالى.
- إنّ الله تعالى يُخبرُنا أنَّ دينَه متناغمٌ مع فطرةِ الإنسان، قال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، وهو ما يعني ضرورةَ انجذابِ الإنسانِ إليه، والإقبالِ عليه، والعملِ به، ولكننا نجدُ أنّ شريحةً مِن الناس تَنفُر من الدين ولا تعتني به، وذلك لأسبابٍ عديدة مِن بينها تقديم الدين بصورة خاطئة، أو مشوّهة، أو تقديمه بصورة غير مناسبة، وذلك عندما لا نلاحظ بعض الخصوصيات لدى المخاطَب مثلاً، فهناك أمور لا يستوعبها كل الناس، وهناك أمور لا يتحمّلها كل الناس، وهناك أمور تُنفّر بعضَ الناس مِن الدين، فلماذا الإصرارُ على طرحها، والحالُ أنّ ربَّ العالمين يرُشدُنا إلى أنْ نمتلك الحكمةَ في تقديمِ الدين حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). كلُّ ما سبق يستدعي مِن أصحاب الخطاب الدينيّ الصادر مِن أهلِ الوَعظِ والإرشاد، وكذلك مِن قبل المتديّنين مِن عامة الناس، ومِن أولياءِ الأمور، أنْ يُراعوا مضامين أطروحاتِهم الدينية بحيث تكون جذّابة متناغمةً مع الفطرة السليمة التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها.
أخيراً، وبعد أكثر مِن مائتي يومٍ مِن معركةِ طوفانِ الأقصى، ومِن العدوانِ الصهيوني، ما
زالت المقاومةُ البطلةُ راسخةَ القدم، وما زال أهلُ غزةَ يَضربون أروعَ الأمثالِ في الصبرِ والصمود، بينما لا تزالُ أقدامُ المعتدينَ عالقةً في الرمالِ والوحول، وارتفعَت الأصواتُ في الكيان مُعبِّرةً عن العَجز عن تحقيقِ ولو هدفٍ واحد من الأهداف التي أُعلِنت في بداية العُدوانِ الهمجي. فلتبقَ قلوبُنا وألسنتُنا وعطايانا ناصرةً للحق، ومعينةً للمستضعَفين أينما كانوا. ربَّنا أفرِغ عليهم صبراً، وثَبِّت أقدامَهم وانصُرهم على القومِ الكافرين.

4/26/2024

لمشاهدة جميع الخطب المرئية اضغط هنا