خطبة الجمعة 19 رمضان 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: التنمية الاقتصادية عند الإمام علي

- بالإضافة إلى ما له علاقة بالدين، كانت لعلي(ع) بصمته في مجالات الحياة المختلفة. في المجال العسكري.. في المجال الأمني.. في المجال السياسي، وغير ذلك... بصمات لا تخصّ البعد الإجرائي والإداري والقانوني، أي ما يمثّل البعد الجسدي لتلك المجالات فحسب، بل والبعد المعنوي والأخلاقي والأدبي لها أيضاً.
- وسأتحدّث في هذه الخطبة عن بعض بصماته (ع) في المجال الاقتصادي ضمن العناوين التالية:
1. عمارة البلاد: سواء أكانت مسكونة ومعمورة من قبل المسلمين أو غيرهم، فما دامت جزء من بلاد المسلمين، فإن على عاتق المسئولين فيها أن يعملوا على توظيف الإمكانات التي بأيديهم من أجل إحياء وعمارة هذه الأرض.
- في تاريخ اليعقوبي: (مِما کتَبَهُ) أي الإمام علي (إلی‌ قَرَظَةَ بنِ کعبٍ الأَنصارِی: أما بَعدُ، فَإِن رِجالًا مِن أهلِ الذمةِ مِن عَمَلِك ذَکروا نَهراً فی أرضِهِم قَد عَفا وَادَّفَنَ، وفیهِ لَهُم عِمارَةٌ عَلَی المُسلِمینَ) أي من حقهم على المسلمين أن يقيموا لهم المشاريع العمرانية (فَانظُر أنتَ وهُم، ثُم اعمُر وأصلِحِ النهرَ؛ فَلَعَمری لَأَن یعمُروا أحَب إلَینا مِن أن یخرُجوا) يهاجروا (وأن یَعجَزوا أو یقَصُروا فی واجِبٍ مِن صَلاحِ البِلادِ. وَالسلامُ).
2. الاعتناء بالزراعة: تحظى الزراعة بأهمية خاصة في حياة الإنسان كونها توفر المقوّمات الأساسية لحياته، وبالزراعة استقرّ الإنسان وكوّن المدنيات والحضارات.
- في وسائل الشيعة عنه (ع): (إن مَعایشَ الخَلقِ خَمسَةٌ) خمسة أمور بها قوام حياة الناس (الإِمارَةُ، وَالعِمارَةُ، وَالتجارَةُ، وَالإِجارَةُ، وَالصدَقاتُ.. وأما وَجهُ العِمارَةِ فَقَولُهُ تَعالی‌: «هُوَ أَنشَأَکم منَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَکمْ فِیهَا»، فَأَعلَمَنا سُبحانَهُ أنهُ قَد أمَرَهُم بِالعِمارَةِ؛ لَیكونَ ذلِك سَبَباً لِمَعایشِهِم بِما یخرُجُ مِنَ الأَرضِ؛ مِنَ الحَب، وَالثمَراتِ، وما شاکلَ ذلِك،
مِما جَعَلَهُ اللهُ مَعایشَ لِلخَلقِ...).
- وهناك شواهد كثيرة حول عنايته (ع) بأمر الزراعة ومباشرتها بنفسه، سواء على عهد النبي (ص) أو بعد ذلك. وقد بقي إلى اليوم ما يُعرف بعنوان (صدقات علي) وهي بساتين أوقفها الإمام لأغراض مختلفة.
- يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (قد عاتبت العثمانية وقالت: إن أبا بكر مات ولم يخلّف ديناراً ولا درهماً، وإن علياً [ع] مات وخلّف عقاراً كثيراً - يعنون نخلاً - قيل لهم: قد علم كل أحد أن علياً [ع] استخرج عيوناً بكدّ يده بالمدينة وينبع وسويعة، وأحيا بها مواتاً كثيراً، ثم أخرجها عن ملكه، وتصدّق بها على المسلمين، ولم يمت وشيء منها في مُلكه.. وفضلَهُم أميرُ المؤمنين [ع] بأنه كان يعمل بيده، ويحرث الأرض ويستقى الماء ويغرس النخل، كل ذلك يباشره بنفسه الشريفة).
3. التنمية الصناعية: لها حظ أيضاً في الرؤية الاقتصادية عند الإمام (ع)، وقد أوصى الأشترَ برعاية ذوي الصناعات عندما ولاه مصر، فقال: (ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً... وتفقَّد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك).
- وفي الكافي عنه (ع): (إن اللهَ عَز وجَل یُحِبُّ المُحتَرِفَ الأَمینَ).
4. التنمية التجارية: بيّن الإمام علي (ع) أهمية التجارة على المستوى الفردي حيث قال كما في الكافي: (تَعَرَّضوا لِلتجارَةِ؛ فَإِن فیها غِنیً لَكم عَمّا فی أیدِي الناسِ).
- وفي كتابه للأشتر وصية بالتجار وذوي الصناعات، وقد ضمّنها الإمام (ع) بياناً لأهمية التجارة على المستوى العام: (فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلّابها من المباعد والمطارح، في بَرِّكَ وبَحرِك) وبعد أن أوصى بهم قال: (اعلم مع ذلك أن في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكُّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإن رسول الله [ص] منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل وأسعار لا تُجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حُكرةً بعد نهيك إياه فنكِّل به، وعاقب في غير إسراف).
5. مراقبة الأسواق: ذكرَت عدةُ روايات اعتناء الإمام (ع) بمراقبة الأسواق وتفتيشها حرصاً على منع الغش والاحتكار والتطفيف وغيرها مما يُلحق الضرر بمصالح الناس.
- في كتاب دعائم الإسلام: (عَن عَلِی(ع) أنَّهُ کانَ یمشی فِی الأَسواقِ وبِیدِهِ دِرَّةٌ یضرِبُ بِها مَن وَجَدَ مِن مُطَفِّفٍ أو غاشٍّ فی تِجارَةِ المُسلِمینَ. قالَ الأَصبَغُ: قُلتُ لَهُ یوماً: أنَا أكفیك هذا یا أمیرَ المُؤمِنینَ وَاجلِس فی بَیتِك، قالَ: ما نَصَحتَنی یا أصبَغُ) أي هذه مسئوليتي، وعليّ تحمّلها، وإن أتعبتني، وجلبت لي القيل والقال (... ویطوفُ فِی الأَسواقِ سوقاً سوقاً... ثُمَّ أتی إلَی التَّمّارینَ فَقالَ: أظهِروا مِن رَدیءِ بَیعِكم ما تُظهِرونَ مِن جَیدِهِ. ثُمَّ أتَی السَّمّاکینَ فَقالَ: لا تَبیعوا إلاّ طَیباً وإیاکم وما طَفا. ثُمَّ أتَی الكُناسَةَ وفیها مِن أنواعِ التِّجارَةِ؛ مِن نَخّاسٍ، وقَمّاطٍ، وبائِعِ إبِلٍ، وصَیرَفِی، وبَزّازٍ، وخَیاطٍ، فَنادی بِأَعلی صَوتٍ: یا مَعشَرَ التُّجّارِ، إنَّ أسواقَكم هذِهِ تَحضُرُهَا الأَیمانُ) البائع يُقسم والمشتري يُقسم (فَشوبوا أیمانَكم بِالصَّدَقَةِ) وفي رواية عنه (ع) بالصدق (وکفّوا عَنِ الحِلفِ؛ فَإِنَّ اللّهَ تَبارَك وتَعالی لا یُقَدِّسُ مَن حَلَفَ بِاسمِهِ کاذِباً).
6. الضرائب: كان من المعهود أن تتعسّف الدول في جباية الضرائب المختلفة، وكان هذا يزيد من ألم دافعي الضرائب.. فلا يكفي أن يتألم دافعُ الضريبة من نقصان ماله، بل يضاف إلى ذلك ألمُه في طريقة الجباية، إذ عادةً ما تكون مقرونة بالقوة والغلظة والجبر.
- وبحسه المرهف، وأخلاقه الرفيعة، وأدبه الجم، نجد علياً (ع) يوصي جامعي الزكوات بأشدّ المراعاة، ونلحظ هذا في أكثر من وصية، من بينها ما تضمنه الكتاب برقم 25 في نهج البلاغة، وفيه أكثر من خمس عشرة وصية تخص أدب التعامل مع دافع الزكاة.
- وحتى عندما تُجبَى الضريبة من غير المسلمين، تبقى وصايا علي (ع) حاضرة.
- في الكافي عن رجل من ثقيف قال: (استعملني علي بن أبي طالب [ع] على بانقيا) جزء من مدينة النجف الحالية (وسواد من سواد الكوفة، فقال لي والناس حضور: انظر خراجك) ضريبة الأرض الزراعية (فجِد فيه، ولا تترك منه درهماً) لغة التشديد هنا واضحة ولكن لا تستعجل وانتظر نهاية الرواية (فإذا أردتَ أن تتوجّهَ إلى عملِك فمرّ بي، قال: فأتيته فقال لي: إن الذي سمعت مني خُدعة. إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم) أي من أجل أن يسددوا الخراج (فإنما أُمرنا أن نأخذ منهم العفو) فذلك التشديد كان للناس كي لا يتهرب مستطيع منهم عن دفع الضريبة، ولكن مجالُ التسامح ومراعاة من لا يقوى على ذلك كبير.
- أكتفي بهذا القدر، وبما سمح به الوقت، وإلا فإن مفردات هذا الباب كثيرة.
- لقد كانت لعلي (ع) بصماتُه الخاصة في المجال الاقتصادي... بصماتٌ لا تخصّ البعدَ الإجرائيَّ والإداريَّ والقانونيَّ فحسب، بل البعدَ المعنويَّ والأخلاقيَّ والأدبيَّ أيضاً، وقد شمِلَت مفرداتٍ عديدةً في هذا المجال، من بينها الاعتناءُ الكبيرُ بالزراعة، وبالتنميةِ الصناعيةِ والتجارية، ثم مراقبةِ الأسواق، وأخلاقياتِ وآدابِ جمعِ الضرائب، وغيرِها مما تشهد لها نصوصٌ عديدةٌ مبثوثةٌ في قسمِ الخطبِ والكتبِ من نهج البلاغة، وفي مصادرَ أخرى متنوعةٍ مِن كتب الحديث والتاريخ، ولا يسع مَن يطّلعْ عليها إلا أن يزدادَ إعجاباً على إعجاب بالشخصية الفذّة لأمير المؤمنين عليه السلام.

3/29/2024

لمشاهدة جميع الخطب المرئية اضغط هنا