أيها الضال!! - الشيخ علي حسن

عرفت المجتمعات البشرية منذ القدم صوراً عديدة من التناحر الديني والمذهبي، مع طرق الشرعنة واضفاء طابع القداسة عليها، والأسلحة العديدة التي تستخدمها الأطراف المتصارعة..ومنها سلاح التضليل.

الحكم بالضلال في القرآن الكريم:
طرح القرآن الكريم عناوين محددة اعتبرها أسباباً للحكم بالضلال وتتلخص في التالي:
1. الشرك: قال سبحانه {ومن يُشْرِكْ بِاللّهِ فقدْ ضلّ ضلالًا بعِيدًا} النساء:116.
2. الكفر: قال تعالى {ومن يكْفُرْ بِاللّهِ وملائِكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والْيوْمِ الْآخِرِ فقدْ ضلّ ضلالًا بعِيدًا} النساء:136.
3. التمرد على حكم الله والرسول: قال سبحانه: {وما كان لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنةٍ اذا قضى اللّهُ ورسُولُهُ أمْرًا ان يكُون لهُمُ الْخِيرةُ مِنْ أمْرِهِمْ ومن يعْصِ اللّه ورسُولهُ فقدْ ضلّ ضلالًا مُّبِينًا{ الأحزاب:36. سواء من خلال اتباع الهوى أو اتباع الشيطان.

المشكلة في التطبيق:
لا يرتاب مسلم في العناوين التي طرحتها الآيات القرآنية، الا ان المشكلة تبرز حين الولوج في التفاصيل وفي اثبات ان هذا الأمر من مصاديق الشرك أم لا؟ وأن هذا الرأي من مصاديق الكفر أم لا؟ وأن ذلك التصرف يعد من موارد التمرد على الله ورسوله أم لا؟ وهل يتحقق من خلاله اتباع الشيطان أم لا؟ وهل يمكن اعطاء المبرر في الحالة الكذائية؟ الخ..

مسلمات العقيدة والشريعة:
من أهم مفاتيح ضبط مسألة الحكم بالضلال في الدائرة الاسلامية الكبرى تحديد المسلمات في دائرة العقيدة كأصل التوحيد والايمان بالنبوة واليوم الآخر، والمسلمات في دائرة الشريعة من قبيل وجوب الصلاة اليومية خمس مرات، ووجوب الزكاة، وفرض صيام شهر رمضان والحج للمستطيع.فانكارها بعد اقامة الدليل على من اشتبهت عليه الأمور يعد ضلالاً بل خروجاً عن الاسلام في بعض الحالات.
أما سائر التفاصيل والفروع فتعد مسائل اجتهادية أو قابلة للأخذ والرد وفق قوة الأدلة القائمة عليها أو ضدها، لأن ما ثبت لدى البعض أنه من هدي الاسلام في دائرة العقيدة (من قبيل رؤية المؤمنين لربهم في اليوم الآخر وأن كتاب الله قديم، ونفي التجسيم والاعتقاد بالبداء..) وفي دائرة الشريعة (من حيث تفاصيل الصلاة وأعمال الحج وموارد الزكاة والخمس) لم يثبت عند الآخر، وما اعتبره البعض ضلالاً لم يفهمه الآخر على هذا النحو. وهكذا الأمر في الدائرة المذهبية الواحدة.

المسلمات ستة في المائة فقط:
قال المرجع الديني الشيخ محمد اسحاق الفياض: (الأحكام الشرعية الاسلامية تصنف الى صنفين، أحدهما: الأحكام الشرعية التي لا تزال تحتفظ بضرورتها بين المسلمين عامة...وهذا الصنف من الأحكام الذي يتمتع بطابع ضروري لا تتجاوز نسبته الى مجموع الأحكام الشرعية عن %6 بنسبة تقريبية، والصنف الآخر: الأحكام الشرعية التي تتمتع بطابع نظري، وهذا الصنف من الأحكام هو الذي يتوقف اثباته على عملية الاجتهاد والاستنباط).
وقد أدت عدة عوامل الى محدودية المسلمات واتساع نطاق المختلف فيه، أهمها الابتعاد عن عصر صدور النص وما رافقه من دس ووضع أو ضياع للنصوص أو للقرائن الموضحة لها، وطبيعة اللغة العربية بما تحتويه من أساليب مجازية ومتشابه ومحكم، بالاضافة الى الخلاف القديم المتجدد في تحديد المرجعية الدينية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهل تتحدد في آل بيته عليهم السلام، أم تتسع الدائرة لتشمل كل صحابي؟

التضليل في الدائرة المذهبية الواحدة:
وذات المعيار ينساق الى التراشق بالضلال في الدائرة المذهبية الواحدة، فان رمي الآخر بالضلال انما يسوغ اذا كانت مخالفته في البديهيات والمسلمات، دون النظريات والاجتهاديات، والا لجاز لكل عالم ان يضلل الآخرين الذين يختلفون معه في بعض الآراء، ولهذا قال الشهيد الثاني الشيخ زين الدين العاملي (ت955هـ) في كتابه المسالك بخصوص مسلمات العقيدة الامامية: (المراد بالأصول التي تُرد شهادة المخالِف فيها: أصول مسائل التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد، أمّا فروعها من المعاني والأحوال وغيرها من فروع علم الكلام فلا يقدح الاختلاف فيها لأنها مباحث ظنية، والاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة كثير شهير).

بين الصدوق والمفيد والمرتضى:
وقد حفظ لنا التاريخ نماذج عديدة من الاختلافات الاجتهادية في الدائرتين العقائدية والفقهية بين علماء الامامية دون ان يجرهم الى الحكم بتضليل من يختلف معهم، ومن نماذج ذلك:
1. ألّف الشيخ الصدوق (ت381هـ) كتاب (الاعتقادات)، وردّ عليه تلميذه الشيخ المفيد (ت413هـ) بكتاب (تصحيح الاعتقاد) الذي احتوى على أكثر من 90 مورداً اختلف فيه مع أستاذه.
2. ذكر الشهيد الثاني في المسالك ان السيد المرتضى (ت436هـ) خالف أستاذه وشيخه المفيد في ما يقرب من 100 مسألة عقائدية. وقد كتب قطب الدين الراوندي (ت573هـ) رسالةً في هذا الشأن وجمع فيها اختلافاتهما العقيدية فبلغت نحو 95 مسألة، وقال في آخرها: (لو استوفيت كل ما اختلفا فيه لطال الكتاب).
3. كتب شيخ الطائفة الطوسي (ت460هـ) في كتابه عدة الأصول عن اختلاف علماء الطائفة في الأحكام الشرعية قال: (فاني وجدتها أي الطائفة مختلفة المذاهب في الأحكام، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة الى أبواب الديات من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض... حتى ان باباً منه لا يسلم الا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى... حتى أنك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم، لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينتهِ الى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفته).
والجملة الأخيرة هي بيت القصيد، فعندما تسود الروح الموضوعية يكون الميزان هو الدليل، بعيداً عن كل سهام التضليل التي يُرمى بها من يحاول مناقشة السائد من الأفكار والشائع من المفاهيم والاعتقادات، وان افتقرت تلك الآراء السائدة الى دليل يعضدها.