إلا من رحم ربك _ الشيخ علي حسن

(وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)118ـ119.
لله القدرة على أن يجعل الناس على طريقة واحدة في استخدام عقولهم وفي تصوراتهم لكل القضايا المتعلقة بالإيمان والحياة، وهو القائل (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل:40، ولكن مشيئته كانت في جعل الإنسان حراً في تفكيره وإرادته، وزوّده بالضوابط الداخلية كالعاطفة والفطرة والإرادة، والخارجية كالرسل والرسالات والكتب السماوية ليُحسن الاختيار.
صراع مع الآخر:
طبيعة هذه الحرية في التفكير والتصرف أدت إلى تحرك النوازع الذاتية والانفعالات الشخصية بحيث تؤثر سلباً على اختياره، وتدفعه نحو الاختلاف مع الآخر لينشأ عنه النزاع الذي قد يؤدّي إلى أكثر من نتيجة سلبية على مستوى الواقع الإنساني العام، كما في قوله سبحانه (وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال:46، والآية تحكي سنة إلهية وقانوناً اجتماعياً، فالتنازع المستمر يعني فشل التنمية وزوال عناصر القوة والتأثير، وإطماع الآخرين بالسيطرة على هذا المجتمع أو تحويله إلى مرتع لتحقيق أغراضهم، وقد قال أمير المؤمنين علي عليه السلام (إن للخصومة قُحَماً) فهي تُقحِم صاحبها في المهالك، من حيث لا يدري، وإلى حيث لا يدري.
استثناء:
واستثنى الله سبحانه فئة معينة عبّر عنها بعنوان (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) من المؤمنين الذين اتقوا الله وحكّموا عقولهم فالتزموا بالضوابط الربانية، ولم يجدوا في الحرية الممنوحة لهم مبرراً للتمرد على تلك الضوابط، ولذا كانوا من المرحومين، إذ سيرحمهم الله في الدنيا، ويرزقهم رضوانه وجنانه في الآخرة، فإنما خلق الله الناس للرحمة لا للعذاب ولا للنزاع (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ).
نُسخ مكررة!!
عدم تنازع هذه الفئة لا يعني أن أحدهم نسخة الآخر، بل إنهم لم يخلدوا إلى الأرض ليكونوا ماديين لا يعولون القيم المعنوية أي اهتمام (حب الدنيا رأسُ الفتن، وأصل المِحَن) الإمام علي.. وتنازلوا عن أنانيتهم وأنكروا ذواتهم بالمستوى الذي آثروا فيه الآخرين على أنفسهم، ووطّنوا أنفسهم على التضحية من أجل الصالح العام (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر:9.. والتزموا بالأخلاقيات الاجتماعية فصدقوا في القول والعمل وكانوا أمناء مجتمعاتهم (لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحج والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق‏ الحديث وأداء الأمانة) النبي الأكرم.. وابتعدوا عن الجدال (ثمرة المراء الشحناء) الإمام علي.. وترفعوا على توافه الأمور (إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق ويكره سفسافها) النبي الأكرم.. وأحسنوا الظن بإخوانهم (من حسن ظنه بالناس حاز منهم المحبة) الإمام علي.
عاقبة سوء الاختيار:
وفي المقابل فإن سوء الاختيار من الفئة الأخرى وإصرارهم على سلوك طريق العصيان والإجرام سيبعدهم عن هذه الرحمة الأخروية ليجدوا العذاب في الانتظار.