خطبة الجمعة 13 شعبان 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: التمكين في الأرض

- ذكرت في الخطبة الأولى أن تعميمَ العدل وانتشارَه في الأرض، وتمكينَ دينِ الله بعد تخليصه من البدع العالقة به، وتحقيق الرخاء الاقتصادي، وترسيخ الأمن، كل هذه السمات للدولة المهدوية، تعتبر -قرآنياً- نتائج منطقية ومتوقَّعة... والسؤال: لماذا؟
1. (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد:25].
- فهل يُعقَل بعد كل هذه الجهود التي بذلها الرسل عبر التاريخ من أجل تحقيق غايات محدّدة، من أهمها أن يقوم الناس بالقسط، وأن تتحقق العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية، ثم تنتهي مسيرة البشرية على الأرض دون تحقيق ذلك؟
2. هناك وعد إلهي قاطع وواضح لا شك فيه يرتبط بتمكين دينه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].
- (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33].
3. وهذا التمكين وهذا الإظهار لا يراد بهما الجانب السياسي والإداري كغاية في نفسه كما قد يتصوّر البعضُ ذلك، بل الأساس هو تمكين الدين ورسالة الإسلام، وما التمكين السياسي والإداري سوى مقدمة لذلك: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:41]،
- وهكذا فقد كان من مهام النبي (ص) في هذا الإطار أن يضع الإصر والأغلال التي اصطنعها الناس بعنوان أنها من شرائع الله، أو التي جاءت كتشريعات عقابية، أو مناسبة لعصر دون آخر: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف:157].
4. غاية من الغايات الإلهية في التنوّع البشري هو تحقيق العولمة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية وغيرها، وذلك وفقاً للأسس السليمة القائمة على السلم، والاحترام، وتبادل المنافع، لا بناءً على الاستعلاء والاستغلال.
- والعنوان الذي يختصر ذلك -قرآنياً- هو عنوان التعارف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:12].
- في هذا العصر، من الأهداف المعلنة والمدّعاة للعولمة أن يتقارب الناس ويتعارفوا من خلال إلغاء الكثير من الحواجز البينية، وتوفير سبل الاتصال السريعة، وتيسير السفر، ووسائل الترجمة من خلال الذكاء الاصطناعي، وغير ذلك.
- إلا أن هذا التقارب والتعارف منقوص ومعوجّ ما دامت العنصرية قائمة، ومثلُها النظرة الاستعلائية، والاستغلال، والكيل بمكيالين، وتوظيف التجارة الحرة، واقتصاد العولمة، لصالح طبقة معينة تتحكّم في حياة الناس، وتصطنعُ النزاعاتِ والحروبَ مِن أجلِ تمويلِ مصانعَ السلاح، وتحاربُ مِن أجلِ نشرِ المفاسد والفواحش بذريعةِ نشر التحرّر!
- اليوم هناك مؤسسات ومنظمات عالمية تدّعي أنها تهدف لتحقيق العدل والأمن العالميين، واتخاذ الإجراءات اللازمة لصالح الدول الضعيفة.. الأمم المتحدة.. محكمة العدل الدولية.. مجلس الأمن الدولي.. المحكمة الجنائية الدولية.
- ولكن هذه المؤسسات -وفق تركيبتِها وأنظمتها وتشريعاتها- غالباً ما تكون عاجزة عن تحقيق ذلك إلا إذا التقت مع مصالح الدول العظمى، والقوى المؤثِّرة عالمياً.
- وأوضح مثالٍ حيٍّ على ذلك اليوم ما نشهده من عجز دولي أمام وقف العدوان الصهيوني الوحشي على غزة، والذي قد يفوق الوحشية النازية، فضلاً عن محاسبة مجرمي الحرب الصهاينة. فهل هناك أية شبهة أو جهل بخصوص ما يجري؟ أبداً. ولكن لا يتوقع تحقيق العدالة وإعطاء كل ذي حقه حقّه من قبل هذه المؤسسات بأكثر من هذا القدَر.
- نعم، بالنسبة إلى الكويت، وبعد الغزو الصدامي، فقد كانت الإرادة الدولية أن يعود الحقُّ لأصحابه، وهذا ما تحقّق فعلاً، ولكنها كانت -أوّلاً- من الحالات النادرة والقليلة التي ينجح فيها العالم في حشد قوّاتٍ بذلك التنوّع لتحرير البلاد.
- من أسباب ذلك، مواقف الكويت في مساعدة كافة الدول اقتصادياً. بل حكى لي أحد المسئولين السابقين -كمثال- أنه كان من المفترض أن يتم توقيع اتفاقية لمساعدة إحدى الدول الأفريقية خلال شهر أغسطس من عام 1990، ولكن الغزو الصدامي حال دون ذلك، ومع هذا تفاجأت تلك الدولة بأن أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد قد أمر بإتمام تلك الاتفاقية، وتقديم المساعدة لتلك الدولة بينما البلاد ما زالت تحت الاحتلال!
- الأمر الآخر أن مصالح الدول الكبرى التقت مع تحرير الكويت وطرد المعتدي الغازي.
- كنت أقول أن المؤسسات والمنظمات العالمية لا تعمل اليوم باستقلالية لتحقيق التعارف والتكامل بين الشعوب، وهي خاضعة لسيطرة وتأثيرات القوى العظمى ومصالحها... وأما في الإسلام، فإن تحقيق التعارف والتكامل بين الناس لا يخضع للمصالح الخاصة والنظرات الضيقة، ولا للفلسفات القائمة على التمييز، والعنصرية، والاستكبار.
- وهذه العدالة، وهذا الأمن، والالتزام بالتشريعات الإلهية، والتعارف الإنساني على أسس سليمة، في الدولة المهدوية، كلها ستستتبع الرخاء الاقتصادي بفعل عاملين، أحدهما إجرائي، والآخرُ مددٌ غيبي كما أشرت إلى ذلك من قبل.
- إنَّ مِن سننِ اللهِ تعالى في حركةِ الصراعِ بين الحقِّ والباطل، وبينَ الخيرِ والشرّ، وبين رسلِه والطواغيتَ والمستكبرين، أن تكون العاقبةُ -ولو بعد حين- لصالحِ الحقِّ والخيرِ ورسلِ الله -بالعنوان الكبيرِ للرسلِ وبما لا يخصّ الأنبياءَ فقط- ونموذجُ ذلك ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِيَ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُواْ يَحۡذَرُونَ)، وهو ما ينطبقُ على صراعِ الإسلامِ مع المستكبرين إلى أنْ يأذنَ اللهُ عز وجل لمهديِّ الأمةِ بالظهور، لتكونَ مآلاتُ حركتِه أن يرثَ الأرضَ فيقيمَ دولةَ العدل، ويمكّنَ دينَ الله في أصقاعِ العالمِ وينشرَه، ويرفعَ عنه ما عَلُقَ به مِن بدعٍ وأساطيرَ وموروثاتِ لا أساسَ لها، ويحقّقَ غايةَ التعارفِ والتكاملِ بين البشريةِ على تنوّعِهم، ووعدُه الحقُّ وقولُه الصدق، وهو القائلُ سبحانه: (كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).