خطبة الجمعة 6 شعبان 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الظالم وحركة الوجود

- في أجواء ما يجري من ظلم وتآمر عالمي بحق غزة الصامدة والبطلة، يطرح البعض تساؤلاً مفادُه: كيف يُعطي الله تعالى القوةَ للظالم؟ ما الحكمة من ذلك؟
- بل كيف ينصر الله الظالم على المظلوم، ويعطيه أسباب تحقيق مآربه التي تتعارض مع الإرادة الإلهية للخير، والحال أن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:7-8].
- يمكن الإجابة على هذه الإشكالية في نقاط:
1. عموماً، هناك فهم خاطئ لكيفية الإدارة الإلهية للوجود.
- يتصور كثير من الناس أن الله تعالى يحرّك الموجودات، كما يحرّك لاعب الشطرنج أحجار اللعبة، وعلى أساس ذلك تتغيّر الأحداث... هذا التصور غير سليم.
- الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، ووضع القوانين، ووفق هذه القوانين يتحرك الوجود.
- هناك قوانين طبيعية، من قبيل حركة الكواكب حول الشمس، وتبخّر الماء بالحرارة، وهناك قوانين ترتبط بالأفعال الاختيارية للناس.
- المؤمن المتّقي إذا قطع شرايينه، فإنه ينزف دماً... والملحد إذا قطع شرايينه، فإنه ينزف دماً... والظالم إذا قطع شرايينه فإنه ينزف دماً.
- المهندس المؤمن الخيّر إذا أتقن مشروعه الهندسي فإنه يُوفَّق في مشروعه... وكذلك المهندس الملحد... وكذلك المهندس الظالم.
- المؤمن إذا أعدّ عدته الحربية بالشكل المطلوب، فإنه يحقّق نتيجةً من خلال ذلك... وهكذا بالنسبة إلى الملحد... وهكذا بالنسبة إلى الظالم.
- المؤمن الصالح إذا أهمل وتراخى ولم يدرس المخاطر ولم يعدّ لها العدة، فإنه قد يتعرض للضرر والخسارة، وهكذا الملحد، وهكذا الظالم.
- هذه قوانين، وضعها الله تعالى، وهو يُشرِف عليها، ومن خلال هذه القوانين تتحرك مجريات الأحداث، وتتحقق النتائج... نعم، قد يتدخّل الله تعالى لإيقاف ترتّب النتائج أو تغييرها، ولكن هذا التدخّل يعتبر حالة استثنائية، وضمن شروط وقوانين أيضاً.
2. الفارق الذي ينبغي أن ننبّه إليه بين ما يصدر عن الفئات المختلفة من الناس أن المؤمن إذا أخلص في عمله لله تعالى، أو اختبره الله فوجده صابراً محسناً، فإن الله سبحانه قد يسدّده، وقد يهيّئ له المزيد من أسباب النجاح والتوفيق، وقد يدفع عنه شيئاً من المخاطر والأضرار.
- في معركة بدر الكبرى كان المطلوب من المؤمنين التالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:45-46].
- الله تعالى مع الكل من حيث أنه محيط بهم، وهو القيوم بأمورهم، ولكن المعية المذكورة في الآية السابقة معيّة خاصة، وهي معيّة الإعانة والتدخّل لصالح المؤمنين الصابرين.
- حقّق المؤمنون إجمالاً ما هو مطلوب منهم من المقدّمات، ولذا جاء المدد الإلهي:
أ) أعطاهم الله دفعة وقوة معنوية في مواجهة الصعوبات وذلك بمقدار الصبر الذي يبديه الأفراد: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ، الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:65-66].
ب) جاء المدد الإلهي كالتالي:
- (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً) لماذا؟ (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الأنفال:43].
- (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) لئلا يدخل الرعب في قلوب المؤمنين (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ليستهينوا بقتالكم، وكل ذلك: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) [الأنفال:44]
- (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ) [الأنفال: 9-10].
- (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ) [الأنفال: 11].
- (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) [الأنفال: 11].
- (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) [الأنفال: 12].
- في المستقبل: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ) [آل عمران:152]، حيث علم المسلمون بغزو قريش لهم في السنة المقبلة قبل وصولهم المدينة (غزوة أحد).
ج) كمال الثواب الإلهي: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:35]. يتركم أعمالكم: لن يُنقص من قيمتها.
- هذه الأمور لا يعطيها الله تعالى للظالم عندما يُهيّئ هذا الظالم أسباب نجاحه في ظلمه، ولكن في نفس الوقت، هذا الظالم قد يحقّق مراده من خلال عمله في تحقيق المقدمات وفق القوانين التي وضعها الله سبحانه في حركة الوجود.
3. وإذا لاحظتم فإنني كررت استعمال كلمة (قد)، لأن الأمور في نهاية المطاف بيد الله تعالى، ولا يحق لنا أن نحتّم على الله شيئاً، وهذا ما ينبّه عليه القرآن في مثل قوله تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنفال:132]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ....) [التحريم:9].
- فمع أن بتصورنا أن طاعة الله ورسوله تستدعي منا أن نقول أن هذا الإنسان مؤمن
وصالح، ولذا فلابد وأن يكون مرحوماً، والتائب التوبة النصوح لابد وأن يغفر الله له، إلا أن القرآن يدخل كلمة (لعل) و(عسى) بما يدلّ على الترجّي والاحتمال، لأن هذا الأمر في نهاية المطاف من اختصاصات رب العالمين، وليس مِن حقِّنا أن نُحتّم على الله شيئاً.
- بل حتى بالنسبة إلى رسول الله (ص) بعظمته -وهو سيد الناس- تأتي الآية بكلمة (عسى) التي لا تدلّ على الحتم، بل على الرجاء والاحتمال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79].
- إنَّ لله تعالى قوانينَ تحكمُ حركةَ الوجود، سواءً بما هو مِن قبيل حركةِ الكواكب، أو ما يُقدِمُ عليه الإنسانُ عن اختيارٍ، وقد تترتّبُ النتائجُ -بخيرِها وشرِّها- على الاختيار الإنساني بغضِّ النظر عن كون الإنسان مؤمناً صالحاً، أم ملحداً، أم ظالماً. ولكنْ، إذا
هيّأ المؤمنُ الصالحُ الأسبابَ مخلصاً لله تعالى، فإنّ الله قد يُفيضُ عليه مِن بركاتِه وتوفيقاتِه، ويفتحُ له مِن أبوابِ النجاحِ والنصر، ويدفعُ عنه مِن أبوابِ الشرِّ والضرر ما لا ينالُه الآخرون في مثل تلك الظروف. من هنا نقول، أنّ تمكّنَ الطغاةِ والظلمةِ والمجرمين في مقاطعَ مِن التاريخِ مِن تحقيق مآربهم عن طريقِ القتلِ، والاحتلالِ، والاضطهادِ، والتشريدِ، والتجويع -كما يفعل الصهاينةُ اليوم- إنما يأتي كنتيجةٍ طبيعيةٍ متوافقةٍ مع تلك القوانين، وهي ليست نصراً مِن الله لهم كما قد يتصوّر البعض، بحيث تمثّلُ إشكالاً وتعارُضاً مع العدالةِ والقدرةِ والهيمنةِ الإلهية.
اللهم يَا مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنْبَاءُ الْمُتَظَلِّمِينَ، ويَا مَنْ لَا يَحْتَاجُ فِي قَصَصِهِمْ إِلَى شَهَادَاتِ الشَّاهِدِينَ، ويَا مَنْ قَرُبَتْ نُصْرَتُهُ مِنَ الْمَظْلُومِينَ، ويَا مَنْ بَعُدَ عَوْنُهُ عَنِ الظَّالِمِينَ، قَدْ عَلِمْتَ، يَا إِلَهِي، مَا نَالَ المسلمين -ولا سيما أهلُ غزةَ- مِنْ الصهاينةِ ومِمَّن يقفُ مِن خلفِهم، مِمَّا حَظَرْتَ وانْتَهَكوه منهم. اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وخُذْ ظَالِمِيهم بِقُوَّتِكَ، وافْلُلْ حَدَّهُم بِقُدْرَتِكَ، يا قاصمَ الجبارين، ونكالَ الظالمين.