خطبة الجمعة 29 رجب 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: ملكي أكثر من الملك

- (ملَكي أكثر من الملك) مثل فرنسي ظهر في أجواء الثورة الفرنسية، وتُرجم لاحقاً إلى عدة لغات، ومن بينها اللغة العربية.
- هذا المثل يختصر فكرة المزايدة بالمغالاة في ما يتبنّاه الإنسان -أو يتظاهر بتبنيه- أو في شخص تربطه به علاقة خاصة... وهذه المغالاة تستتبع التعصّب بصوره المختلفة.
- المزايدة قد تكون في الإطار الديني، وقد تكون في الشأن السياسي، أو الاجتماعي، أو حتى الرياضي، والفني، وغير ذلك.
- زرارة، وحُمْران، وبُكيْر، أبناء أعيَن بن سُنسن، إخوة من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (ع)، ولهم مكانة عند الأئمة (ع) من خلال إخلاصهم لهم، وجهودهم العلمية التي بذلوها في التفقّه، والرواية، والتدوين.
- وفي الكافي رواية مُعبِّرة يرويها زرارة نفسُه، يكشف من خلالها كيف كان يعيش حالة من المزايدة بشأن الأئمة (ع)، بما كان يستتبع منه التعصّب والمغالاة واتخاذ الآراء والمواقف التي تتجاوز توجيهاتِهم، وصريح كلامهم، وبما ينطبق عليه المثل السابق.
- ولعل كان ذلك منه في أيام شبابه وحماسته، فلما تقدّم به العمر صار يستذكر الموقف الذي جمعه بالإمام الباقر (ع)، وكأنه يُعبِّر عن ندمِه على ما جرى نتيجة ذلك التطرّف.
- في الكافي بالسند عن هشام بن سالم عن زرارة قال: (دخلت أنا وحُمران -أو أنا وبُكَيْر- على أبي جعفر [ع] قال: «قلت له: إنا نَمُدُّ المِطمار قال: وما المِطمار؟ قلت: التُّر) خيط للبناء (فمن وافقَنا من علويٍّ أو غيرِه تولَّيناه، ومَن خالفنا مِن علوي أو غيرِه برِئنا منه) مواقف حادّة من الآخر الذي نختلف معه تقترب من التكفير كما سيتبيّن معنا. - من هنا، أرجعه الإمام الباقر (ع) إلى القرآن الكريم باعتباره المصدر الأوّل في تكوين الرؤية الدينية، وذلك لبيان أن الناسَ أصناف ومستويات، ولا يصحّ أن نحكم عليهم بحُكم واحد، وأن الله تعالى أعدل من يحكم على الجميع بحُكم واحد (فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدقُ من قولك، فأين الذين قال الله عز وجل: [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً]؟ أين المُرجَوْن لأمر الله، أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؟ أين أصحابُ الأعراف؟ أين المؤلفةُ قلوبُهم؟!).
- نفس هذه الرواية رواها حماد عن زرارة ولكن فيها تتمة، وهي أن زرارة قال: (فارتفع صوت أبي جعفر [ع] وصوتي حتى كاد يَسمعُه مَن على باب الدار) لاحظ إلى أية درجة بلغ تعصّب زرارة -في ذلك الوقت- في تبنّيه لمسألة الإمامة والولاية بحيث ينسى نفسه،
ويجادل الإمام ذاته، ولا يقبل أن يأخذ بقوله، فيحتدّ النقاش، وترتفع الأصوات.
- وكذلك رواها جميل بن دَرَّاج عن زرارة، وفيها التتمة التالية: (فلما كثر الكلام بيني وبينه قال لي: يا زرارة، حقاً على الله أن لا يُدخل الضُلّال الجنة). وقد فُسِّرت هذه العبارة بأكثر من صورة، ويبدو لي أنها تحذير من الإمام لزرارة أن يبلغ في عناده -بعد بيان الأدلة- إلى المستوى الذي يكون فيها مُصرّاً على مخالفة كتاب الله، وكلام الإمام، وبما يؤدّي إلى الوقوع في عدة إشكالات تنتهي به إلى عاقبة سيئة.
- ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يعيش مثل هذه الحالة من المزايدة على الدين؟
1. التشوّه المعرفي: فالجهل بالمفاهيم الدينية، أو عدم وضوح المسائل، أو النظر إليها من زاوية واحدة، والجهل بحقيقة الطرف الآخر، والأحكام المسبّقة، كل ذلك قد يؤدي إلى وقوع الالتباس عند الفرد، وواحدة من صور الالتباس أن يتّخذ مواقف تتّسم بالتّعصب والمغالاة والحدّية، تصوراً منه بأنّ ذلك يمثّل أرقى صور التديّن، والانتصار للدين.
- وواحدة من أسباب التشوّه المعرفي النصوص الدينية الموضوعة، أو المنقوصة، أو المحرّفة، أو التي تم إخراجها من سياقها، بما يؤدّي إلى تكوين تصوّرات مغالية، أو تدفع إلى التعصّب والتطرّف.
2. طبيعة المرحلة السنية: فمن مميّزات مرحلة الشباب قوة العاطفة، وهي بدورها توجِد مستوىً من القلق، ومن أجل أن يتغلّب هذا الشاب على قلقه هذا، فإنه يعمد إلى المبالغة، والتعصّب، والمغالاة في الآراء والمتبنّيات، ليمنح نفسه شعوراً بالقوة والسيطرة، وليوصل أيضاً رسالة إلى الآخرين بأنه قوي ومسيطر.
3. التعصّب للذات: فهو يتبنّى الفكرة، ثم تصبح الفكرة هو، وهو الفكرة. وعندها يتحوّل أي نوع من النقد أو الاختلاف إلى عملية مواجهة شخصية، فينبري بقوة للدفاع عن ذاته، وإن ألبَس ذلك ثوب الدفاع عن مبدأ، أو رأي، أو دين، أو مذهب، أو شخصية، أو غير ذلك.
4. المصالح الشخصية: في الخصال للشيخ الصدوق عن معاوية بن وهب قال: (قال أبوعبدالله [ع]: الشيعة ثلاث، محبٌّ واد) فعلاقته بهم تنطلق من مشاعر حب ومودة حقيقية تجاههم، ويحبهم ويواليهم في الله ولله (فهو منّا. ومتزيّن بنا) فهو يتّخذ من عنوان التشيّع سبباً للتفاخر (ونحن زيْنٌ لمن تزيّن بنا. ومستأكلٌ بنا الناس، ومن استأكل بنا افتقر) قال المجلسي: [أن يجعلوا إظهارَ مولاتهم، ونشرَ علومهم وأخبارِهم، وسيلةً لتحصيل الرزق، وجلبِ المنافع من الناس، فينتجُ خلافَ مطلوبهم، ويصيرُ سبباً لفقرهم].
5. الرياء: في وسائل الشيعة عن الصادق (ع): (اجعلوا أمرَكم هذا لله، ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان لله فهو لله، وما كان للناس فلا يصعد إلى السماء).
6. النوايا الخبيثة: فهناك مَن هم مرتبطون بالدوائر المخابراتية التي تعمل على إيجاد التفرقة، أو إفساد دين الناس... وهناك مَن يحمل أجندات معادية، فيُظهر التولّي وهو في الواقع من المحاربين.
- في كتاب (عيون أخبار الرضا) للشيخ الصدوق، عن الرضا (ع) أنه قال: (يا ابن أبي محمود، إن مخالفينا) أي أعداء أهل البيت، وليس كل من يختلف معهم أو لا يواليهم (وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام، أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوَّ فينا، كفّروا شيعتَنا ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا، وإذا سمعوا التقصير، اعتقدوه فينا. وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسماءنا. وقد قال الله عز وجل: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ]).
- إنّ المزايدةَ على المعتقَدِ أو على رموزِه، بحيث يكون الإنسانُ ملكياً أكثرَ من الملِك، قد تنطلق أحياناً من طبيعة المرحلة العمرية التي يعيشها الفرد، لاسيما مرحلة الشباب، وذلك حين تتغلب العاطفة على العقل، كما قد تكون منطلقةً من التشوّه المعرفي، أو التعصّب للذات، أو سعياً وراء تحقيق بعض المصالح الشخصية، أو الأجندات الخبيثة.. ولكل سبب من هذه الأسباب طريقة للمعالجة. والمطلوب في نهاية المطاف أن يكون الفردُ ملتزماً بالحدود التي تم تبيينُها في الدين، وقد قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). والمزايدةُ لا تقتصرُ على الأمورِ ذاتِ العلاقةِ بالدين، وقد شهِدنا مِن حينِ وقوعِ طوفان الأقصى مزايدةَ بعضِ الأنظمةِ الغربيةِ ووسائلِ الإعلامِ فيها على دعمِ الكيان الصهيوني في الادعاءاتِ الواهيةِ حولَ ما جرى في السابعِ من أكتوبر، واتهامِ المقاومةِ الفلسطينيةِ بارتكاب الجرائمِ فيها، كما أنّها تطرَّفَت في دعمِ الوحشيةِ الإسرائيليةِ بالموقفِ والسلاحِ والتكنولوجيا المتطورةِ والإعلام، كما مارس بعضُها سياسةَ التنكيلِ وتقييدِ الحرياتِ عندما تعلّق الأمرُ بالحقّ الفلسطيني، ولكنّ اللهَ للظالمين بالمرصاد، وهو القائل: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).