خطبة الجمعة 22 رجب 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الكويت.. وحكاية مغزل

- ذكرت في الخطبة الأولى أن من مفردات الرحمة الإلهية في بعثة النبي الأكرم (ص) هو تحقيق التآلف والتلاحم بين مكوّنات المجتمع الإيماني، وبما يحقّق وينمّي القوة الاجتماعية فيها.
- ومسألة (القوة الاجتماعية) شغلت -على مدى التاريخ- اهتمام الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين لعدة قرون.
- ويأتي ذلك نتيجة الإدراك الواعي لوظيفتها، وكونها من أقوى الأدوات، سواءً للمشاريع التي تصبّ في الصالح البشري، وتتوافق مع إحدى الغايات الإلهية المتمثلة في تعارف البشر... أو للمشاريع الشيطانية، حيث يزخر التاريخ بأمثلة كثيرة من سوء استغلالها من قِبَل الطواغيت.
- ويمكن تعريف القوة الاجتماعية بأنها (القوة التي يمتلكها المجتمع في الجوانب العملية المتمثّلة بالتماسك والترابط العضوي ما بين أفراده، على أساس الفكر المشترك، والشعور المشترك، في اتجاه الهدف الواحد المشترك).
- وعيُ أهمية هذه القوة، والتخفّفُ مِن الإحساس بالفردية، يقرّب المجتمع من تحقيق هذه القوة الاجتماعية... والعكس صحيح.
- ونستكشف هذه الحقيقة من خلال التصوير القرآني الرائع المتمثل في قوله سبحانه: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) [النحل:92].
- تُقدّم الآية الصورة الحسّية التالية:
- كومة من الصوف المبعثر غير المتجانس، تتحول عن طريق الغزل إلى خيوط قوية متعدّدة الألوان، ومن ثَم تتم عملية النسج المحكم لهذه الخيوط في نسَق متجانس الألوان، متغاير الاتجاهات، ولكنه محكم في تداخلاته، متلاحم في نسجه، ليشكل بعد جهد كبير قطعة فنية جميلة من البساط الذي يستفيد منه الجميع.. إلا أنه سرعان ما تقوم الناسجة بنقض ذلك النسيج وتفكيكه مجدداً إلى خيوط مبعثرة متناثرة.. في تصرّف لا عقلائي، يستحق معه الذم والتقبيح!
- تلك هي صورة المجتمع الذي يبدأ بفقدان قوته الاجتماعية حين تطغى على أفراده، ومؤسساته، وكياناته، حالة الشخصنة، وحب الذات، والفئوية، على حساب المصلحة العامة (أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) فكلٌّ يعمل لمصلحته الخاصة، ومن خلال الوسائل غير المشروعة، وبرفع الشعارات المخادعة، ولاسيما تلك التي تحمل صفة القداسة أو العناوين المخادِعة: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ).
- مما سبق نُدرك أن كلَّ جهد يبذله أفراد المجتمع في طريق تحقيق القوة الاجتماعية، بما يعود على البشرية بالخير، إنما يكون موضعَ رضاً لله سبحانه، وكلَّ جهد مخالف يُبذَل بما يؤدّي إلى تمزيق المجتمع أكثر وأكثر، أو تمزيق أمّة الإسلام أكثر وأكثر، إنما هو فتنة من الشيطان: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). إنّ العمل على تحقيق القوة الاجتماعية هي مسئوليتُنا المنطلقةُ من إيماننا الذي يفرضُ علينا التلاحمَ عملاً بقوله تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ]، وممّا في رقابنا جميعاً من عهود والتزاماتٍ دستوريةٍ تفرضها المواطنَةُ الصالحة، والعيشُ المشترَك في المجتمع الذي نريد له الاستمرار في قوته الاجتماعية، وتنميته.. وهي مسئولية تقع على عاتق الدولةِ، والشعبِ، والقوى السياسيةِ، والاقتصاديةِ، والمؤسساتِ الدينية، ومؤسساتِ المجتمعِ المدني، والإعلامِ، وسائر الكَيانات... وكلُّ إخلالٍ بهذا إنما هو نقضٌ للغَزْل بعد إبرامِه، وتدميرٌ للقوة الاجتماعية التي عمل الجميع على تحقيقها خلال عقود طويلة من عمر الكويت، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا)... ولا يخفى على الأعزاء التحدّي المتمثّل في سعي الجهات التي لا تريد بهذا البلد خيراً، وعلى رأسهم الصهاينة وأياديهم التكفيرية، لإحداث الفتنة بالأدوات الإجرامية، والوسائل التحريضية، ومن ذلك عَملُ الخليةِ التكفيريةِ التي أُلقيَ القبضُ على أفرادها مؤخّراً في اتجاه تجنيدِ بعضِ الطلبةِ والمغرَّرِ بهم لتحقيق مآربهم الشيطانية.
وهو الأمر الذي يستدعي المعالجة التعليمية والتربوية والتوعوية والإعلامية، بجانب المعالجة الأمنية.
أخيراً، نتوقّف عند تداعياتِ العدوانِ الصهيوني وارتداداتِ طوفانِ الأقصى، ففي حين نشهدُ استمراراً لبطولاتِ المقاومة، وجرائمِ الصهاينة، فإذا ببعضِ الدول الغربيةِ تُكشِّرُ مجدّداً عن وجهِها القبيحِ بإعلانِ إيقافِ تمويلِها لعملِ الأونروا، لتُعينَ بذلك الصهاينةَ على إحكامِ سياسةِ الخنقِ للقطاعِ، وقتلِ أهلهِ أو تركيعِهم بالتجويعِ الممنهج: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).