خطبة الجمعة 22 رجب 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: نبي الرحمة


- قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107].
- لم تتسم الدعوة المحمدية على صاحبها وآله التحية والصلوات بأنها رحمة لخصوص أنها كانت هداية على المستوى الإيماني فحسب، وإن كان هذا هو الأساس، بل هي رحمة لأنها تضمّنت أيضاً الهداية على المستوى المعرفي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
- ومن نماذج ذلك تحقيق المجتمع المتآلف المتحاب، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:62-63].
- كانت البداية في مكة، في مجتمع صغير مضطَهَد وتحت الضغط، ولذا كان من الطبيعي أن يعيش المؤمنون في حالة من التآلف واللُّحمة كالجسد الواحد، إن اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى... ومن عايش الغزو الصدامي للكويت يتذكّر تآلف القلوب وتعاضد الجهود في أجواء المحنة، وضغوطات الاحتلال.
- ثم كَبُر هذا المجتمع في المدينة المنورة، وانبثقت صورة أخرى رائعة للتآلف حين طُمِرت منابع الفتنة أوّلاً بين الأوس والخزرج، ثم نبتت شجرة الإخاء بين المهاجرين والأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9].
- وبتوفيق من الله تعالى، تمكّن النبي (ص) بقيادته الحكيمة، والمسلمون بانقيادهم له وبتمسّكهم بكتاب الله العزيز، أن يُفشِلوا كلَّ مساعي تمزيق ساحتهم الموحّدة، وأن يئدوا كلَّ فتنة أطلّت عليهم برأسها.
- وهكذا، تأسَّس مجتمعٌ قوي متلاحم، بعد أن كان التخاصم والتنازع والعداوة والبغضاء والتحارب السمات الرئيسة لطبيعة العلاقات فيما بينهم.
- وعندما اتّسعت رقعة هذا المجتمع الإيماني في أواخر حياة النبي، وعمّت الجزيرة العربية، تحوّلت مجاميع الغارات، والنهب، والسلب -تدريجياً- إلى مجتمعات حضارية، يجمعها عنوان الأمة الواحدة، وتحكمها الكثير من القيم والمبادئ.
- وحتى مع بروز الخلاف على الحُكم بعد النبي، كان الهمُّ الأكبرُ لعلي أن يحفظ وحدة هذه الأمة، ولو على حساب ظلامته، وبيّن ذلك في كتابه لأهل مصر: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً [ص] نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى [ص] تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ [ص] عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ [ص]، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ).
- وما ذاك إلا لوعي علي (ع) بأنّ الحفاظ على (القوة الاجتماعية) التي عمل النبي (ص) على تحقيقها في أمّة الإسلام تُمثِّل أصلاً غيرَ قابلٍ للتنازل عنه، ولذا قال (لمّا قُبض رسول الله [ص] وخاطبه العباس وأبو سفيان في أن يبايعا له بالخلافة، وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة، وفيها ينهى عن الفتنة، ويُبيّن عن خُلقه وعِلمه) بحسب ما رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة: (أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ، وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ، أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ، هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا).
- لقد كان رسولُ الله (ص) الرحمةَ الإلهيةَ المهداة للعالَمين، لا على المستوى الإيماني فحسب، بل تجلّت تلك الرحمةُ على مستويات عديدة، إحداها تقديمُ الأسسِ الكفيلةِ بتحقيق وتنمية القوة الاجتماعية من خلال العملِ على خلق التآلف والتعاضد بين مكوّنات المجتمع الإيماني. وسنتوقف في الخطبة الثانية لتسليط مزيد من الضوء على هذا العنوان وأهميته.