خطبة الجمعة 15 رجب 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: الإمام علي (ع) يحاور الأشتر

- روى ابن أبي الحديد المعتزلي في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة تحت عنوان (مناقب علي وذِكر طُرَفٍ من أخباره في عدلِه وزهدِه) حواراً دار بين الإمام علي (ع) وبين مالك الأشتر، يشتكي فيه الإمام من خذلان كثير من الناس بعد مدّة من نهوضه بمسئولياته في الحكم وفق السياسة التي حدّدها وبيّنها، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية.
- ومما جاء في هذا الحوار قول مالك: (... وأنتَ تأخذُهم بالعَدل، وتعملُ فيهم بالحقّ، وتُنصفُ الوضيعَ مِن الشريف، فليس للشريف عندك فضلُ مَنزلةٍ على الوَضيع) فالناس عندك سواسية وتطبق القانون على الجميع بالعدل (فضجَّت طائفةٌ ممّن معك مِن الحق إذ عُمّوا به) أي لمّا شملهم وطُبِّق عليهم (واغتمّوا مِن العدل إذ صاروا فيه) فعلاً... تجد كثيراً من الناس مبدئيين عندما لا يمسّهم الأمر، ولربما يصفون لك العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان كأفضل ما يكون، ولكن بمجرّد أن يمسّهم الأمر، تجدهم يعملون على خلاف تلك المبادئ، ولربما حاربوا الإنسان المبدئي إذا طبّق عليهم القانون.
- مَن يعلم؟ لو كان علي (ع) حياً بين أظهرنا، من منّا سيقبل بسياسته الشديدة، ومن سيصرخ واويلاه، ووانفساه! ويقول كما قيل لموسى: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) [الأعراف:129].
- (ورأوا صنائعَ معاويةَ عند أهل الغَناءِ والشَّرف، فتاقَت أنفسُ الناسِ إلى الدنيا. وقلّ مَن ليس للدنيا بصاحب، وأكثرُهم يجتوي الحق) يكرهه (ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا).
- ولا أعتقد أن هذا كان خافياً على الإمام (ع)، ولكنه همٌّ يَبثّه لأقرب الناس إليه، تخفّفاً من عبئه، ومشاركةً للأفكار.
- الأشتر -بعد هذا الوصف الدقيق لأساس المشكلة- اقترح حلاً، قال: (فإنْ تَبذُل المالَ يا أمير المؤمنين تَمِلْ إليك أعناقُ الرجال، وتصفو نصيحتُهم لك، وتستخلصْ وُدَّهم). أي اشتر ولاءات الناس بالمال والرشى.
- فبماذا ردّ الإمام؟ قال: (أمّا ما ذكرت مِن عملِنا وسيرتِنا بالعدل، فإنّ الله عز وجل يقول: [مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ]) أي ما قمتُ به ليس منّة على أحد، لأن منفعته الأخروية ستعود لصالحي، وأنا لست على استعداد لكي أسيء فيعاقبني الله (وأنا مِن أنْ أكونَ مقصِّراً فيما ذكرتَ أخْوَف) بل إنني أتخوّف أن لا أكون قد بلغتُ من تطبيق هذه العدالة المستوى الذي يريده الله عز وجل!
- الإمام (ع) يتخوّف من أن يسائله الله عن العدالة الاجتماعية، بعد كل تلك الدقّة في تطبيقها إلى المستوى الذي ضجّ معه الناس ولم يتحمّلوه!
- ثم بيّن الإمام (ع) أن مسئوليته -كحاكم- أن يطبّق العدالة الاجتماعية، رضي الناس بذلك أم لم يرضوا، إنه يقوم بمسئوليته إرضاء لله، ولن يشتري رضا الناس بما يُغضب الله.
- ثم تحدّث عن مقترح شراء ولاء الناس بالرشى فقال: (فإنه لا يسعُنا أن نؤتيَ امرِأً مِن الفيءِ) أي من بيت مال المسلمين الذي يجب أن يتساوى فيه الجميع (أكثرَ مِن حقِّه، وقد قال الله سبحانه وتعالى وقولُه الحق: [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]) أي أنا لا أخاف ولا أستوحش من قلة العدد، ففي الآية السابقة معادلة إلهية أؤمن بها إيماناً تاماً (وقد بعث الله محمداً [صلى الله عليه] وحدَه، فكثَّره بعدَ القِلّة، وأعزّ فئتَه بَعد الذِّلة، وإنْ يُرد اللهُ أن يُولِينا هذا الأمرَ يُذلِّلْ لنا صَعْبَه، ويُسهِّل لنا حَزْنَه) الحزْن من الأرض هي الأرض غير المنبسطة، كناية عن تيسير الأمور.
- ثم أنهى الإمام (ع) كلامه بتطييب خاطر مالك: (وأنا قابلٌ مِن رأيكَ ما كان لله عز وجل رضا، وأنت مِن آمَنِ الناسِ عندي، وأنصحِهم لي، وأوثقِهم في نفسي إن شاء الله).
- هكذا كان أمير المؤمنين علي (ع) حازماً في تطبيق العدالة الاجتماعية دون استثناءٍ ولا مداراة، لا تأخذه في ذلك لومةُ لائم، وكلَّفَه ذلك الكثير، ولكنه ما كان ليشتري رضا الناس بغضب الله تعالى مطلقاً، كيف لا وهو القائل: (وأنا مِن أنْ أكونَ مقصِّراً فيما ذكرتَ) أي في تطبيق العدالة (أخوف). وسأتوقف في الخطبة الثانية عند بعض الاستخلاصات من هذا الحوار.