خطبة الجمعة 8 رجب 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: العدالة الاجتماعية

- عندما نتتبع الآيات القرآنية الخاصة ببيان أهداف إرسال الرسل من قبل الله تعالى، سنجد أمامنا مهمّتين رئيستين:
1. دعوة الناس إلى توحيد الله، وما يرتبط بذلك من تفاصيل أخرى على مستوى الإيمان والعمل الصالح كما مرّ معنا بيانه في خطبة علي (ع)، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:45-46].
2. تحقيق العدالة الاجتماعية، ونجد ذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد:25].
- والسؤال: هل الهدفان أصيلان، أم أحدهما فقط أصيل، والآخر فرعٌ عنه وتابع له؟
- في البين أربعة آراء، من بينها أن تحقيق العدالة الاجتماعية هو الهدف الأصيل، وأن الدعوة إلى الله مقدّمة لذلك، ووسيلة من أجل التعرف على القوانين الإلهية وكيفية تطبيق العدالة الاجتماعية.. وهذا الرأي يصطدم بأمرين:
1. سيؤدي إلى أنه متى ما تم التعرف على ذلك، واستطاع الإنسان بالبحث والتجربة والتكامل العقلي أن يصل إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، فلا حاجة للدعوة إلى الله، والتمسك بالدين، والارتباط بالله تعالى من خلال العبادة.. وهذا مخالف للتعاليم القرآنية.
2. أصالة الآخرة على حساب الحياة الدنيا، في حين أنّ مؤدّى هذا الرأي الاقتصار على الحياة الدنيا، وإهمال دور الإنسان في الحياة الدنيا تمهيداً لمصيره في الآخرة، وهو على خلاف ما تؤكده آيات عديدة، من بينها: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنبكوت:64]. أي هي دار الحياة الحقيقية، أو هي ذاتها الحياة... وعليه فإن هذا الرأي أقرب إلى النظرة المادية للحياة.
- وبغض النظر عن سائر الآراء ومناقشتها، يمكن القول أن الرأي الأقرب للصواب أن نقول أن العدالة الاجتماعية وسيلة للوصول إلى الهدف الأصيل المتمثّل في هداية الناس إلى الله تعالى، بالإضافة إلى كونها ذات قيمة ذاتية في نفسها، فهي مطلوبة بذاتها، ولا يصحّ التخلّي عنها متى ما تحقَّقت الغاية الأصيلة من الرسالات.
- بل يمكن القول، أن إقامة العدالة الاجتماعية مِن أهم وسائل هداية الناس إلى الله سبحانه، فالمجتمعات التي تفتقد ذلك، وتعاني من الظلم بالتمييز، والطبقية، والاستبداد، وانتشار الفقر، واحتكار فئة أو فئات معينة للامتيازات على حساب سائر الفئات، وما إلى ذلك من عوامل فقدان العدالة الاجتماعية، مثل هذه المجتمعات تنتشر فيها الكثير من صور الانحراف والفساد، وبالتالي البُعد عن الله، وتلخّصها الرواية التالية:
- عن علي (ع) أنه قال: (من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال) هذه الخصال ليست حتمية، ولكنها قابلة أن تترتب على الفقر، وليس كل فقير مبتلى بها (بالضعف في يقينه) يفقد الثقة بالله، وبالتوكل عليه، والثقة بالنفس، والثقة بالسلطة الحاكمة، والثقة بالمجتمع، وبكل ما حوله، وهذا خطير جداً (والنقصان في عقله) فمن شدة إلحاح وضغط الحاجة يفقد الاتزان في قراراته، فيُقدِم على ما لا يُحمَد عُقباه، كالانتحار، أو الجريمة، أو السرقة، أو التخريب، أو الانضمام إلى العصابات، أو تعاطي المخدرات والمسكرات، أو امتهان الفاحشة.. إلخ (والرقّة في دينه) إذ يَضعف مستوى التقوى لديه، فلا يبالي أن يرتكب المعاصي، ويرى أن معاناتِه مستمرة، ودعاءه غير مستجاب، فلماذا يستمر في العلاقة بالله والصلاة والصوم والتزام شرع الله تعالى (وقلةِ الحياء في وجهه) مما قد يدفعه إلى التسوّل، وعدم الشعور بالحرج من الإلحاح في الطلب، والتحايل على الناس من أجل الحصول على حاجته، بل قد لا يكتفي بحاجته، ويتحوّل التسوّل لديه إلى أمر مُلحٍّ، ومبرَّر، ومطلوب، مهما امتلك من مال.
- وخلاصة القول، أن العدالة الاجتماعية -وفقاً للنظرة الإسلامية- وإن لم تكن هي الهدف الأصيل من إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، إلا أنها من أهم وسائل تحقيقه، وأعني بذلك هدايةَ الناس إلى الله تعالى، علاوة على كونها ذات قيمة ذاتية لا يجوز التخلّي عنها مهما ارتقى الناس في تحقيق ذلك الهدف السامي. والإنصاف، أن الدول الغربية خطت خطوات واسعة ومتقدِّمة في اتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية في محيطها، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، ووفق نظريات متباينة، إلا أنّ مِن أهم ما يُلاحَظ على ذلك أن هذه الدول لا تبالي بتحقُّق هذه العدالةِ في سائرِ المجتمعاتِ إلا عندما تكون المسألة وسيلةً مِن وسائلِ الضغطِ السياسيّ، أو الابتزازِ الذي تمارسُه على حكوماتِ المجتمعاتِ الأخرى. بل إنها قد تعمل -ولو بطريقة غير مباشِرة- على عدم تَحقّقِ هذه العدالة الاجتماعية فيها، وذلك مِن خلال الإتيان بحكوماتٍ أو شخصياتٍ دكتاتورية، أو دعمِها ومساندتِها ما دامت تخدمُ مصالحَ تلك الدولِ الغربيةِ وسياساتِها، فتُقدِّمَ ذلك على مصالحِ الشعوب. ومن هنا نجد أن بعضاً من تلك الحكومات الغربية بادرت للوقوف مع الكيان الصهيوني بكل قوة، وقدّمت له صنوف الدعم السياسي والإعلامي والمالي والعسكري، في حالةٍ مِن اللامبالاة بأبسطِ وأوضحِ حقوقِ الشعبِ الفلسطينيِّ الذي احتُلَّت أرضُه، وطُردَ منها، وتُمارَس بحقِّه مِن قِبلِ الصهاينة -على مدى عقودٍ مِن الزمن- كلَّ أنواع الاضطهاد، والقتلِ، والسجنِ، والتعذيبِ، والتهجيرِ، والملاحقةِ الأمنيةِ، والاغتيالاتِ، وسياساتِ التجويعِ، والمحاصَرةِ، والاعتداءِ على مقدَّساتِه، وغيرِ ذلك مِن صورِ الظلمِ التي لا تخفَى على أحد، لتُسقِطَ بذلك مِن جديد ادعاءاتِها الفارغة، وتكشفَ مَدى النفاقِ السياسيّ الذي تمارسُه:
الليلُ أغبرُ والنهارُ عَبوسُ والصُّبحُ أقبلَ والعَدوُّ يدوسُ
والطائراتُ تَقذِفُ لهيبَ حَميمِها على العِبادِ كي تطيرَ رؤوسُ
وطفلٌ بريءٌ نائمٌ في حُضنِ أمِّه يَلقَى الرَّدى والأبرياءُ جُلوسُ
والملاجئُ تُقصَفُ فوقَ كلِّ مُواطنٍ يأبَى التغرُّبَ، لأنّه عِتريسُ
والدُّورُ تُهدَمُ فوقَ كلِّ مَن يَحيا بها ليَسودَ الخوفُ، والرُّعبُ، والتدنيسُ
ولولا رجالٌ استرخَصوا الحياةَ فجاهدوا لَتَحقّقَ للصهيونيِّ ما كان يَسوسُ
رجالٌ أعاروا اللهَ جَماجِمَهم فنُصِروا والعالَمُ دَهِشٌ، والعدوُ في حَيْرةٍ يؤوسُ