تفسير سورة الجاثية 21-31 هل كان المشركون في مكة يؤمنون بتناسخ الأرواح ؟

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ
- تحدثت الآيات السابقة حول تكذيب المشركين بالآيات واستهزائهم بها.
- كما تحدثت عن الموقف المطلوب من المؤمنين، وهو الصفح، وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله، وضرورة اتباع الشريعة الإلهية.
- ثم تتحدث الآيات عن موقف المشركين من الآخرة، وهذا الموقف متنوع:
1. إنكار الآخرة: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ) 24
والرد عليهم في تتمة الآية: (وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ).
2. التحدّي مع التهكّم: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) 25
3. على فرض وجود الآخرة، فإن الأمور لن تتغير عما هي عليه في الدنيا، بتخيّل أنهم يصيرون في الآخرة، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الآخرة، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)21
- الاجتراح: الاكتساب، مشتق من الجَرح، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة. ويُطلق على اكتساب السباع ونحوها، ولذلك سميت كلاب الصيد جوارحَ. وسمي به اكتساب الناس لأن غالب كسبهم في الجاهلية كان من الإغارة على إبل القوم وهي بالرماح.
- (سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) رد على موقفهم الثالث وادّعائهم بأنه على فرض وجود الآخرة فإن الأوضاع لن تختلف، وأن اجتراحهم للسيئات لن يكون ذا أثر أخروي، كما أن التزام المؤمنين بالشريعة الإلهية لن يكون مؤثراً أيضاً، وهو إتعاب للنفس بلا طائل... إن كلامهم هذا حكم سيء إلى أبعد حد، وهو ناشئ عن الجهل.
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)
- إن كون الخلق بالحق يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر، تُجزى فيه كل نفس ما تستحقه بحسب كسبها، فالمحسن يُجزى جزاء حسناً، والمسيء يُجزى جزاء سيئاً، من دون ظلم ناشئ عن جهل، أو ضعف، أو خوف، أو خطأ، أو نسيان، أو غير ذلك.
- ولو لم تكن هناك آخرة، فإن هذا الخلق سيكون مبنياً على العبث، والعبث من الباطل.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
- إنّ إنكارَ الآخرة والحساب والثواب والعقاب، واعتبار أنْ لا قيمة للإيمان والعمل الصالح كلَّه ناشئ عن اتباع الهوى اتباعاً أعمى، وبالمستوى الذي يُجعَل فيه إلهاً يطاع بشكل كامل، ونتيجة ذلك، فإن الله يُغلق عليه أبواب الهداية بعد الجحود والعناد والاستكبار (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) فهذا النموذج من الناس على علم ببطلان ادعاءاتهم، كما قال تعالى في مورد آخر: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [النمل:14].
- (فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) شبيه بقوله تعالى: (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [غافر:33]. فإذا بلغ هذا المستوى وخُتم على أمر هدايته، فلن يهتدي أبداً.
- (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (24)
- قال الراغب: (الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله تعالى: « هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ» ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان، فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة).
- هذه كانت عقيدة المشركين، ورأيهم في الحياة الدنيا وأنه لا حياة وراءها، وبالتالي إنكارهم الآخرة وما يتعلق بها من حساب وثواب وعقاب.
- (نَمُوتُ وَنَحْيَا): قد يقال أن من المفترض بالعبارة -بحسب عقيدة المشركين- أن تكون بالعكس [نحيا ونموت]، ولكن ليس الأمر كذلك، فالمراد أننا نموت، ويأتي غيرنا ويعيش
حياته، ثم يموت، ويأتي غيرهم ثم يموتون... وهكذا. فليس الموت انتقالاً من دار إلى دار منتهياً إلى البعث والرجوع إلى الله.
- وهناك رأي آخر، أن المشركين أو قسماً منهم- كانوا يؤمنون بالتناسخ، والمعنى: (مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فلسنا نخرج من الدنيا أبداً (نَمُوتُ) عن حياة دنيا (وَنَحْيَا) بعد الموت بالتعلق ببدن جديد، وهكذا.
- ويردّه ختام الآية: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ)، فالإهلاك يعني لا تناسخ في البين... ثم هل كان هؤلاء يؤمنون بوجود الأرواح كي يتم التناسخ؟
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25)
- وهذا ادعاؤهم الآخر حول نكران الآخرة والذي يأتي في سياق نوع من التحدي والتهكّم، فإذا كانت الآخرة حق، فليُرجع الله آباءنا الأموات إلى الحياة، ويغفلون عن الحجج والآيات الواضحات التي تبيّن هذه الحقيقة الخاصة بقدرة الله على إحياء الموتى.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
- إن الحقيقة التي يجب أن يقرّوا بها هي أن الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) فأين المشكلة؟ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).