خطبة الجمعة 1 رجب 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: هذا -والله- هو الجواب

- في ذكرى مولد الإمام علي الهادي(ع) نستحضر موقفاً جمعه بالعالِم النحوي واللغوي يعقوب بن إسحاق بن السكيت الدورقي الأهوازي، والذي عُرف بعنوان المؤدِّبِ أيضاً.
- ومهنة التأديب هي مهنة المعلم في إطارها المتكامل، إذ لا تقتصر على الدور التعليمي البحت، بل تضم إليه الدور التربوي، وهي الصورة التي بتنا لا نجدها إلى نادراً في أجواء التعليم، ولأسباب مختلفة، منها غياب الاستراتيجية التربوية، وضخامة المناهج الدراسية، وفقدان المؤهلات التربوية لدى نسبة ملحوظة من المعلمين، وغير ذلك من العوامل.
- ولتميز الرجل في هذا المجال، طلب إليه المتوكل العباسي تأديب ولديه المعتز والمؤيَّد.
- ويُروى أن المتوكل عندما رأى لدى ولديه أحسن الأدب قال لابن السكيت، وقد علم بتشيُّعه: (مَن أحبُّ إليك: هما، أو الحسن والحسين؟ فقال: بل قنبر). فأمر حرسَه فداسوا
بطنه، فمات بعد يوم! وفي رواية أخرى أنّ المتوكل أمرهم أن يستلُّوا لسانه، فسلّوه فمات من وقته، وكان ذلك في الخامس من رجب سنة 244 للهجرة.
- أما الحوار الذي دار بين الإمام الهادي وابن السكيت فقد جاء حول تنوّع آيات (معاجز) الأنبياء، فبيّن له الإمام أن ذلك راجع إلى تنوّع واختلاف تحدّيات كل زمان، إلى أن قال: (وإن الله بعث محمداً (ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولَهم، وأثبت به الحجة عليهم"، فقال ابن السكيت: والله ما رأيت مثلك قط، فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال(ع): "العقلُ، يُعرف به الصادقُ على الله فيُصدّقَه، والكاذبُ على الله فيكذّبَه"، فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب).
- إن الهادي(ع) في ختام جوابه، أراد أن يؤكّد ما أكّده القرآن والسنّة من قيمة العقل فهو:
1. حُجّة من حُجج الله على العباد، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) قوله: (حُجّةُ الله على العباد: النبي، والحجةُ فيما بين العباد وبين الله: العقل).
2. قوةٌ صالحة للحكم على الأشياء، وميزانٌ يزن به الإنسان صحةَ القضايا وفسادَها.
3. دليل على الدين: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: (مَن كان عاقلاً، كان له دين، ومَن كان له دين دخل الجنة) أي أن العقل يدفع نحو الالتزام بالدين.
4. معيار الإثابة والعقوبة: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: (لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحسن منك، إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب، وإياك أعاقب).
- في مقابل ذلك، جاء التحذير من (اللاعقلانية) والمتمثلة في عدّة صور، مِن أهمها:
1. اتّباع الانفعال النفسي أو العاطفة، بحيث تكون قرارات الإنسان مبنية على أساس ذلك، لا على أساس حكم العقل.
- مثال ذلك، اختيار الزوج أو الزوجة عندما ينبهر الشاب بجمال فتاة، والفتاة بوسامة شاب أو طوله وعضلاته المفتولة، ولا ينظر أحدهما ما وراء ذلك من أخلاق، ودين، وتوافق في الشخصية، وتحمّل المسئولية، وتربية الأبناء، وغير ذلك من قضايا تَظهر بعد أن تذهب سكرة الانجذاب، وتأتي الفِكرة.
- والنتيجة الطبيعة عند سوء الاختيار هو الاختلاف ثم النزاع ثم الانفصال أو الطلاق.
2. اتّباع الأهواء والغرائز دون تفكير، أو حتى مع العلم بتبعاتها السلبية.
- عن علي (ع): (آفةُ العقل الهوى)، إذ يرتكب الإنسان ما يرتكب من مخالفات ومعاصي تترتّب عليها سلبيّات عديدة على مستوى هذه الحياة، وفي المصير الأخروي.
3. بناء المواقف انطلاقاً من تقديس تراث الآباء، أو التحزّب، أو التعصّب فحسب، دون فهم، ولا دليل، ولا قناعة. قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:170].
4. صدور المواقف الانفعالية الخاطئة المترتبة على الغضب، أو الحزن الشديد، أو الصدمة.. وهو ما قد يُعبَّر عنه بالبادرة، كما في عهد علي (ع) لمالك الأشتر إذ قال له: (املُكْ حميةَ أنفِك، وسَورَةَ حَدِّك، وسَطوةَ يدِك، وغَرْبَ لسانِك. واحترسْ مِن كلِّ ذلك بكفِّ البادرةِ وتأخيرِ السَّطوة، حتى يسكُنَ غضبُك، فتملُكَ الاختيار) وهذا لا يخص من هو في موقع الحكم فحسب، بل يشمل وضع كل فرد في المواقف التي يريد فيها إصدار الأحكام.
- إن الإقرار بأنّ الدينَ الإسلاميَّ هو دينُ العقل، يستدعي أن يكون الخطابُ الإسلاميُّ خطاباً عقلانياً طيِّب المضمون، وطيِّب الأسلوب: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) [إبراهيم24-25]، فقد تكون الفكرةُ طيبةً ولكنّ الأسلوبَ غيرُ طيب، فلا تؤتي الكلمةُ ثمرتَها، وقد تكون الفكرةُ خبيثةً، والأسلوبُ طيّباً، فلا تكون الثمرةُ مباركة. كما ويستدعي ذلك أن نكون العقلانيين في تقييم ما يُطرحُ بعيداً عمّا اعتدناه، فلا نبادر إلى رجمِ كلِّ فكرٍ جديد، ولا نرفضَ الجديدَ لمجرّد أنه يختلف عن القديم، كما لا نقبل الجديد إلا بعد أن نستنفر العقل، ونبحثَ في الأمر بتجرُّد، لنُغنيَ الإسلامَ فكراً وثقافةً ومعارف، ولا نظلِمَ الفكرةَ الجديدةَ وصاحبَها اتباعاً للهوى، أو ركوناً للماضي، أو تعصُّباً للسلف.
وأخيراً، نتوقّف قليلاً مع تطلُّعِ الكثيرين إلى مآلاتِ عَقدِ محكمةِ العدل الدولية الخاصة باتهام الكيان الصهيوني بالإبادة الجماعية، وهو ما يمثّلُ منعطفاً جديداً في التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية، إذ لم يسبق وأن يتمّ وضعُ هذا الكيان في موقعِ مجرمِ حربٍ فيها، وهو ما دفع بالصهاينة لأن يتخلّوا -إعلامياً- عن كل كلامهم السابق حول محوِ غزةَ مِن الوجود، وقتلِ ما أمكن مِن أهلها، وتهجيرِ مَن تبقّى منهم. وبالطبع فإنّ الخبيرَ لا يُعوِّلُ كثيراً على مثل هذه المحاكمة في وقف العدوان، فالسبيل الوحيد لذلك هو ما يتحقّق على يدِ سواعدِ المقاومينَ الأبطالِ في ساحاتِ القتالِ من انتصاراتٍ تنطلق من موقع القوةِ والتخطيطِ والإعدادِ والصبرِ، ومن خلال مقاومة أهلِ غزةَ برفض التهجير، وتقديمِ التضحياتِ الجسام، والصبرِ على المصاب، وبالمستوى الذي حارت معه العقول.