خطبة الجمعة 23 جمادى الآخرة 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الاحتكار السياسي

- في الأسبوعين الماضيين استعرضت نوعين من أنواع الاحتكار، الاحتكار العاطفي، والاحتكار الديني، وأتوقف في هذا اليوم عند الاحتكار السياسي.
- في القرآن الكريم، نجد نموذجاً من نماذج الاحتكار السياسي، وذلك حين رفض عِليةُ القوم من بني إسرائيل أن يكون ملكُهم مِن عامّة الشعب، من الطبقة الفقيرة، على الرغم من أن اختيار هذا الملك كان اختياراً إلهياً، وهم الذين سألوا الله تعالى من قبلُ أن يختار لهم ملكاً يستطيع أن يخلّصهم من أوضاعهم الصعبة والسيئة!
- قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) [البقرة:246].
- وأوحى الله تعالى لهذا النبي أن الله اختار لهم (طالوت)... راعي الأغنام ليكون ملكاً!
- وهل يمكن أن يكون هذا الاختيار الإلهي عبثياً؟ حاشا لله... وهل يحقّ لهم أن يحتجّوا على هذا الاختيار الإلهي؟ بتاتاً... ولكن هذا هو الذي جرى... ولماذا؟ لأنهم كانوا يحتكرون المُلك في طبقة معيّنة من بني إسرائيل، طبقة الأثرياء، بغضّ النظر عن توفر المؤهلات في هذا الشخص، أو عدم ذلك.
- (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) على أي أساس؟ (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ) هنا كانت العقدة بالنسبة إليهم (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:247]، فالله يعلم أن هذا الشخص هو الوحيد الذي يحمل المواصفات المطلوبة لشغل هذا المنصب السياسي والعسكري والقيادي في مجتمعكم، ولذا اختاره لكم من دون سائر أفراد مجتمعكم، بما في ذلك الأثرياء منكم.
- النموذج الآخر للاحتكار السياسي هو ما يعرف في الاصطلاح السياسي الحديث بعنوان (التوتاليتارية) والمترجم إلى العربية بعنوان (الشمولية).
- الشمولية شكل من أشكال الحكم السياسي، ومن مصاديق وتفرّعات الحُكم الديكتاتوري، حيث تقوم جماعة أو حزب باحتكار السلطة، ومن ثَمّ فرض رأي سياسي أو حزبي واحد، واضطهاد المخالفين والمعارضين... وأهم ما تتصف به هذه الأنظمة:
أولاً: رفض التعدّدية الحزبية أو الفكرية، فالمتبنّيات الرسمية للنظام هي وحدها التي يجب اعتناقها وتبنّيها مِن قبل الجميع.
ثانياً: اعتماد العنف والإرهاب والقمع لتأمين استمرار هذا النظام، والإجهاز على أي تحرّك يخالفه. وهذا يستدعي الرقابة المباشرة على أفراد المجتمع، والمحاسبة، والمعاقبة الشديدة.
ثالثاً: احتكار النظام لوسائل الإعلام، واستخدامها في تكوين الرأي العام وتوجيهه. وأضيف اليوم إلى ذلك منع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أو مراقبتها بشكل دقيق جداً، وحجب غير المرغوب فيه ما أمكن، والمحاسبة الدقيقة والعنيفة لمن يخالف ذلك.
رابعاً: السيطرة التامة على كل أنواع النقابات والجمعيات والاتحادات المهنية والاقتصادية، وإدارتها بصورة مباشرة. فالوظيفة الحقيقية لهذه المؤسسات تتمثّل في الدفاع عن حقوق المنضوين تحتها، كالعمال والمهنيين وغيرهم، وتحسين أوضاعهم، ولكن متى ما صارت تحت سلطة النظام الشمولي، فإنها ستتحوّل إلى مؤسسات صورية تعمل ضد مصالح تلك الشرائح المجتمعية، ولخدمة النظام فحسب.
- ومن شأن هذا النظام -عادةً- أن يتغوّل، فلا يشعر بالاكتفاء بتسلّطه على المجتمع الذي يحكمه، ولذا يعمل بعد مدّة على محاولة التمدّد، بالغزو والاحتلال للدول المجاورة وهو ما تحقق فعلاً على يد النازيين والفاشيين، وما استتبع ذلك من حرب عالمية ثانية.
- وأعتقد أن مصداق ذلك في الماضي القريب تمثّل في النظام البعثي الحاكم في العراق في الثلث الأخير من القرن العشرين، وبدايات هذا القرن إلى حين سقوطه.
- ومَن عايش هذه الحقبة يتذكّر مصاديق ذلك بوضوح، وكيف عمل هذا النظام المتوحّش خلال ثلاثة عقود من الزمان على تدمير العراق، والسعي لمسخ هوية الإنسان العراقي، كما وتغوّل على جيرانه واعتدى عليهم، بما في ذلك غزوه لدولة الكويت، والجرائم الكثيرة التي ارتكبها خلال ذلك.
- إن مآلاتِ الاحتكارِ السياسي، سواء أكان في صورة الدكتاتورية الفردية، أو الطبقية، أو الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية)، هو التدميرُ الداخليُّ التدريجي لكل مقوّماتِ التنميةِ والإبداع، والتماسكِ المجتمعي.. وهذا كلُّه نتيجةٌ طبيعيةٌ لفرضِ الفكرِ الواحد، والاقتصارِ على إعلامِ النظام، وخنقِ الحرياتِ المسئولة، وتكميمِ الأفواه، ومواجهةِ الرأي الآخر بالعنف، وممارسةِ إرهابِ السلطة... وقد حذّر أمير المؤمنين (ع) مالكاً الأشتر من ذلك حيث قال له في عهده إليه: (إياكَ ومساماةِ اللهِ في عظمتِه، والتشبُّه به في جبروتِه... أنصِف الله، وأنصِف الناس مِن نفسك، ومِن خاصّة أهلِك، ومَن لك فيه هَوى مِن رعيَّتك) فلا أنت كحاكم، ولا أقرب الناس إليك رَحِماً أو انتماءً وولاءً فوقَ العدلِ والقانونِ والمحاسبةِ والنقد، ولذا قال في موضع آخر: (فلا تُكلِّموني بما تُكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يُتحفَّظُ به عند أهل البادرة) أي الذين يسارعون إلى إيقاع العقوبات غضباً وانتقاماً (ولا تخالطوني بالمصانعة) أي تجنّبوا في تعاملكم معي المجاملة والنفاق وتجرّأوا على النقد وكونوا صريحين فيه (... فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقٍّ أو مشورةٍ بعَدل). وكما يتغوّل الفردُ أو النظامُ الحاكمُ القائمُ على الاحتكارِ السياسيِّ داخلياً على مجتمعه، فإنّه قد يتغوّل خارجياً بالعدوانِ على الدولِ المجاورةِ غزواً واحتلالاً، بما يؤولُ إلى اتّساعِ دائرةِ التدميرِ والظلمِ الواقعِ بالشعوبِ والمجتمعات. إنَّ وجودَ الدساتيرِ والبرلماناتِ المنتحَبةِ مِن الشعوب – مهما شابَها من سلبيات أو ملاحظات – إلا أنها تُمثّل ضماناتٍ وصمّاماتِ أمانٍ في الدولِ التي تسعى إلى الابتعادِ عن التحوّلِ إلى أنظمةٍ شمولية، وترغبُ دائماً في أن تحافظَ على رصيدِها ومحبوبيّتِها العفَويةِ عند شعوبِها. وأخيراً، ومع استمرارِ العدوانِ الصهيوني، وممارساتِه الوحشية، وموجةِ الاغتيالاتِ والأعمالِ الإرهابيةِ التي يمارسها في مقابلِ بطولاتِ المقاومة، وصمودِ أهلِ غزة، نرفعُ أيديَنا بالدعاء: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، واحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، واعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، والْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ. اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، واخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، إنك سميع مجيب).