تفسير سورة الجاثية 14-20 .. توجيه شباب المؤمنين تجاه الموقف السليم من المستهزئين؟

(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) 14
- تتحدث السورة في بداياتها عن الموقف اللامسئول والاستكباري لبعض قريش تجاه الرسالة: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [الجاثية:7-9].
- ومن هنا جاء التوجيه الإلهي للمؤمنين في مكة في ما له علاقة بردّة فعلهم تجاه هذا الموقف، إذ يبدو أن بعض المؤمنين -ولاسيما من فئة الشباب- كان يقترحون أو تدفعهم الحميّة لاتّخاذ بعض المواقف العنيفة تجاه هؤلاء المشركين.
- والموقف المطلوب هو المغفرة: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)، أي الصفح والإعراض عنهم بترك مخاصمتهم ومجادلتهم.
- ومِن أجلِ أن تهدأ مشاعر المؤمنين المتأجّجة أمام هذه الموجة الساخرة من المشركين، تذكّرهم الآية بأيام الله القادمة لا محالة.. سواء ما كان من هذه الأيام في الحياة الدنيا، كانتصار المؤمنين في صراعهم مع المشركين المعاندين المستكبرين، أو عند موتهم، أو في يوم الجزاء الأخروي.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) 15
- إن هؤلاء المشركين بموقفهم اللامسئول والاستكباري والمعاند إنما يضرّون أنفسهم في نهاية المطاف، وأما إن أحسنوا الاختيار فسيعود ذلك عليهم بالمنفعة، لأن هناك حقيقة يجب أن لا تغفلوا عنها أيها المؤمنون، وهي تخصّهم وتخصّكم أنتم أيضاً: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). فأطيعوا الله.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) 16-18
- تتضمّن الآيات عدة رسائل:
1. بعثتُك يا رسول الله ليست بدعاً في تاريخ البشرية... فقد سبق وأن آتينا بني إسرائيل النبوة والرسالة والكتاب السماوي والحُكم (الحكمة أو الموقع القيادي)... فلماذا يستبعد ويستهجن مشركو قريش نبوتك ورسالتك والقرآن والحُكم الذي آتاك الله، علماً بأن الجدّ في الإثنين واحد.. إبراهيم (ع).
2. لقد وقع الاختلاف والتفرّق والتنازع والتمزّق الداخلي في بني إسرائيل الذين آتاهم الله ما ذُكر في الآية، ولم يكن ذلك نتيجة عدم وضوح مقوِّمات الإيمان والعمل الصالح والفلاح الأخروي، أو عدم بيان ذلك، بل (مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ).. إذاً لماذا وقع الاختلاف؟ كان ذلك: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ).. أي النوازع البشرية نتيجة عدم التقوى، والانسياق وراء المطامع الشخصية، أو التعصبات الحزبية، والأهواء، والحسد، والغيرة، وغير ذلك.
- وهذه رسالة تحذيرية للمؤمنين برسالة محمد (ص)... ولعلها جاءت بلحاظ وقوع شيء من الاختلاف في الموقف تجاه استهزاء المشركين واستكبارهم، فالبعض يريد الانتقام، والبعض يرى الصبر، وقد جاءت البيّنة في الآيات السابقة أن عليكم أن تصفحوا وتعرضوا عنهم وتتجنبوا العنف.
- كما أنها رسالة تحذيرية لمستقبل المؤمنين بعد رسول الله (ص)، لئلا يكرروا تجربة بني إسرائيل.
3. الشريعة: طريق ورود الماء... لقد بيّنا لك يا رسول الله الطريق المؤدّي إلى الدين الذي ارتضاه الله، وهو الإسلام، وهو الطريق الذي يُرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا، والعاقبة الحسنة في الآخرة، وبما يتناغم مع الهدف من خلقهم.
- ولهذا الطريق -بالنسبة إلى رسالتك- خصوصيته وتشريعاته، والمطلوب منك يا رسول الله أن تتبع هذا الطريق وخصوصياته... فإذا كان بين هذه الخصوصيات التشريعية والعملية وبين خصوصيات رسالات بني إسرائيل وتشريعاتهم فروقات وتمايزات، فعليك بالشريعة التي اختارها الله لك، وإن كان الكل من عند الله تعالى.
- وإذا أشكل عليك الذين لا يعلمون، سواء من بني إسرائيل أو من المشركين، بما له علاقة بخصوصيات شريعتك، وطلبوا منك التخلّي عنها والالتزام بشريعتهم، ما دمت تدّعي أنها من عند الله، وأنك مصدقٌ لها، فلا تلتفت إليهم، ولا تتبع أهواءهم، فإنهم لا يعلمون.
(إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) 19
- التعليل الأول للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون: أنهم لن ينفعوك بشيء، فالأمر كله بيد الله، إن أراد أن يضرّك فلا رادّ له، وإن أراد أن ينفعك فلا رادّ له.
- التعليل الثاني لهذا النهي: أن هؤلاء -المعاندين المستهزئين المستكبرين من المشركين أو غيرهم- يعينون بعضهم بعضاً ضد الرسالة، لأنهم ظالمون، فلا تتخذ من الظالمين أولياء، فإنهم لن يقودوك إلا إلى الظلم، فلا تلتفت لكون بعضهم من أهل الكتاب والرسالات السابقة.
- الولي الحقيقي الذي يجب أن تتولاه وتتبعه في كل شيء وتضع أملَك فيه هو الله تعالى، لأنه ولي المتقين، الذي يرشدهم ويعينهم.
(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ) 20
- إن الإرشادات الإلهية السابقة لا تخصّك وحدك يا رسول الله، بل تشمل الناس جميعاً.. تشمل المؤمنين ليزدادوا ثباتاً، وطاعةً لله ولرسوله... ولغيرهم لعلها تفتح أعينهم أمام الحقيقة فيهتدوا ويوقنوا أن هذا هو الحق، ففي تعاليم الله وشريعته ووصاياه وحكمته الهدى والرحمة.