خطبة الجمعة 16 جمادى الآخرة 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الاحتكار الديني

- ذكرتُ في الأسبوع الماضي أن القرآن الكريم يرشدنا إلى أن الاحتكار لا ينحصر في ما له علاقة بعالم الاقتصاد وحركة المال، وأن في البين صوراً أخرى من الاحتكار، ومن بينها الاحتكار الديني.
- واستعمال مصطلح (الاحتكار الديني) استعمال مجازي، فالدين فعلاً عند الله دين واحد، والرسالات والشرائع هي المتعددة، والقصد من هذا المصطلح أن أتباع كل رسالة يعتبرون أنفسهم فقط على حق دون الآخرين. ولهذا الاحتكار -قرآنياً- صور متعددة، من بينها:
1. احتكار الهداية: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [البقرة:113].
- نلاحظ في الآية السابقة أن الله يقول: (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ)، أي أن مثل هذا الاحتكار للهداية ممكن تصوّره عند من لا يملكون كتاباً سماوياً يتلونه ويتعلمون ما فيه، أما أن تدّعوا ذلك، فهذا لا يتناسب وشأنَكم، ففي كتبكم السماوية ما يتعارض مع هذه الفكرة.
- مثلاً، في الإصحاح الخامس من إنجيل متى أنّ المسيح (ع) قال: (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ)، وهو ما أكّده القرآن بقوله: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) [المائدة:46].
- فإذا لم يكن المسيح (ع) قد جاء لنقض الوحي (الناموس) السابق، ولا ما قدّمه الأنبياء السابقون، بل جاء مصدّقاً، فلماذا يحتكر الهداية من يُفتَرض بهم أن يكونوا أتْباعه؟
- فالله تعالى عندما يبعث رسولاً إنما يبعثه ليُكمل ما قام به مَن سبقه مِن الرسل، لا أن يُلغيَ ذلك ويخطّئه ويحتكر الهداية لأتباعه فحسب، فلليهود هداية بحسب شريعتهم وزمانهم وظروفهم، وللنصارى هداية بحسب شريعتهم وزمانهم وظروفهم، ولأتباع الرسالة المحمدية الهداية بحسب شريعتهم وزمانهم وظروفهم. فالهداية نسبية، وليس من حق أحد احتكارها.
- اليهود عندما يقولون: (لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ) والنصارى إذ يقولون (لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) يشابهون بذلك منطق المشركين: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).
2. احتكار الحب الإلهي.. نحن وحدَنا أحبابُ الله، والمفضَّلون لديه من بين الناس: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) والبنوّة هنا هي البنوّة المجازية، أي المقرّبون إلى الله، الذين اختصّهم لنفسه، وأصحاب الكرامة والمكانة المميزة لديه.
- ولكن إذا كان هذا الادعاء سليماً: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم)؟ والمفترض -بحسب ادّعائكم- أن تكونوا بأجمعكم منعّمين مكرَّمين لديه.
- الحقيقة المرّة التي يجب أن تُقرّوا بها: (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ) ولا تَميُّزَ لكم على أحد، وشأنُكم شأنُ بقية الناس في المحاسبة والإثابة والمعاقبة (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة:18].
3. احتكار الجنة: بناء على احتكار الهداية، واحتكار الحب الإلهي، يدّعي كل طرف أن الجنةَ له فحسب: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) فاليهود يقولون: الجنةُ لنا وحدَنا... والنصارى يقولون: الجنةُ لمَن آمن بالمسيح فحسب.. فهل أصاب أيٌّ منهم الحقيقة في هذا الادعاء؟ (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) تلك أوهامهم (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ولكن ليس لديهم أيُّ برهان ولا دليل يُثبِتون به هذا الادّعاء، ولم يجعل الله لأحد الحق في تقرير مصير الناس... فما هو الصواب؟ (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:111-112]، هذه هي القاعدة الإلهية، لا ادعاءاتكم وأمنياتكم الوهمية.
- وتأتي آية أخرى لتؤكد هذه القاعدة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:62].
- ولا يكتفي البعض بتحريم الجنة على الآخر المختلف، بل ويحكم عليهم بالعذاب في النار، وكأن أصحابَ هذا الادّعاء أربابُ الآخرة والجنة والنار، والناطقون باسم الله تعالى!
- وهذا، وكل ما سبق، نعيشه في تصوراتنا في انقساماتنا المذهبية في الدائرة الإسلامية، وكلٌّ يتمسك بروايةِ الفرقة الناجية، الرواية التي وضعها بعض الأمويين، ثم وظّفها أتباع كل مذهب لصالحه بتغيير بسيط في نهاية الرواية.
- فقد وضعوا على لسان النبي (ص) أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: مَن هي يا رسول الله؟) ومن بعد (مَن) هذه أضافت كلُّ فرقة ما تشاء مِن كلمات لتكون هي الفرقة الناجية، ونسوا -أو تناسوا- قولَه تعالى:
أ- (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:113].
ب- (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة:2-5].
- وغيرها من الآيات التي تؤكد على أن أمر الآخرة بيد الله تعالى، وأن لله الموازين القسط التي لا ندركها نحن، وأنه هو فقط المحيط بظواهر الناس وخفاياهم، وأن للجنة ثمن يتمثّل في الإيمان والعمل الصالح، وليس من حق مسلم أن يخرج مسلماً من دائرة الإيمان، ولا أن يُسقِط عملَه الصالحَ من الاعتبار، ولا أن يحتكر الجنة لأتباع مذهب دون مذهب.
- نعم، الإيمانُ مراتب، والعملُ الصالح مستويات... ولكن هذا شيء، واحتكار الهداية، والحب الإلهي، والجنة، شيء آخر.
- لقد خطّأ القرآنُ الكريمُ اليهودَ باحتكارهم الهداية، كما خطّأ النصارى في ذلك، فالهداية أمرٌ نسبي، ترتبط بالظروفِ الزمنيةِ والمكانيةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ وغيرها، ومن هنا تختلف مضامينُ الرسالاتِ السماويةِ مِن حيث بيانِ التفاصيلَ وطبيعةِ التشريعاتِ وما إلى ذلك، وهذا لا يعني أن تلك الرسالةِ الأضيقِ دائرةً لا تُمثّل الهدايةَ في شيء، ولذا قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) فلو رجع كلٌّ منهم إلى كتابه السماوي، لتبيّن لهم فداحة هذا الادعاء الباطل. وهكذا خطّأ القرآن الكريم اليهود والنصارى في احتكار الحب الإلهي والمكانة الخاصّة، فإنْ كان هذا الادّعاء سليماً (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم)؟ كما وخطّأهما في احتكار كلٍّ منهما الجنة، بينما القاعدة الإلهية في استحقاق الجنة: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). إن تلك الادعاءات ليست سوى أوهامٍ تنطلق من نزعة الاحتكار الديني الذي لا يقوم على أساس سليم، ومن المؤسف أن المسلمين لم يتعلّموا الدرس القرآني، ووقعوا في ذات المصايد الشيطانية من خلال انقساماتهم وتعصباتهم المذهبية، وتجرّأوا على الافتراء على النبي (ص) بوضع حديث الفرقة الناجية، ليحكُمَ أتباعُ كلِّ مذهبٍ -مِن خلاله- على أتباعِ سائر المذاهب بالنار! إنَّ على كل فردٍ أن يبحث عن الهداية من خلال أدلّتها، ومتى ما اهتدى، فليعمل على هداية الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما إصدارُ الأحكامِ الأخرويةِ على الناسِ فهو مِن شأنِ العليمِ الحكيمِ العدلِ سبحانه.
وأخيراً، ومع استمرار العدوان الصهيوني، وبطولات المقاومة، وصمود أهلِ غزة نرفع أيديَنا بالدعاء: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، واحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، واعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وأَعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ، والْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ. اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، واخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، إنك سميع مجيب).