خطبة الجمعة 9 جمادى الآخرة 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: رَوْح الله

- قال تعالى على لسان يعقوب (ع): (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87]
- ذكر ابن فارس في مقاييس اللغة أن كل المعاني المرادة من تركيبة (الرَّاءُ وَالْوَاوُ وَالْحَاءُ) ترجع إلى (الرِّيحِ) ولذا فإن (الرُّوحَ) (مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيحِ... وَالرَّوْحُ: نَسِيمُ الرِّيحِ).
- ويبدو أن لهذه الكلمة -بالاستعمال اللغوي- دلالة أعمق، فهي ليست مجرد نسيم الريح، بل ذلك النسيم الذي يبثّ الحياة والأمل من جديد، ويخلّص الإنسان من الشعور بالاختناق والتعب، فيبعث على الراحة، ويعطي شعوراً جميلاً بعد الضيق.
- وقد جاء في وصف جزاء المقربين: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [الواقعة:89]، فأوّل عطاءات الله للمقرَّبين الراحة من كل همٍّ وحزن وألم وخوف.
- ويشرح العلامة الطباطبائي دلالة هذه الكلمة على (الراحة) وخصوصية استعمالها في الآية، بأن (الشدة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة تُتصوَّر اختناقاً وكظماً للإنسان) وفي المقابل فإن (الخروج إلى فسحة الفرج والظفر بالعافية) يكون (تنفُّساً ورُوحاً... فالرَّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله ومشيته).
- وحيث أننا نؤمن بأنّ الله يفعل ما يشاء، ويُحكِم ما يريد، لا قاهر لمشيئته، ولا مُعقِّب لحكمه، إذاً لا يحق لنا أن نيأس من رَوح الله، ومِن الفرج بعد الشدة، لأنه سيكون تحديداً لقدرته تعالى، وإنكاراً لإحاطته بالأمور، ولسعة رحمته. ولذا عقّب النبي يعقوب (ع) وصيته لأبنائه بقوله: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
- وهناك معادلة يشير إليها أمير المؤمنين (ع) على ما روي عنه في قسم الحكم من نهج
البلاغة برقم 377: (لاَ تَأْمَنَنَّ عَلَى خَيْرِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ عَذَابَ اَللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [فَلاٰ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخٰاسِرُونَ]، وَلاَ تَيْأَسَنَّ لِشَرِّ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [إِنَّهُ لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ]).
- فالأمل الدائم الذي يسترخي معه الإنسان في مقابل كل احتمالات تبدّل الأحوال والمخاطر التي من الممكن أن تقع، يمثّل موقفاً وتصرّفاً غير حكيم، لأن من طبيعة هذه الحياة أنّ دوام الحال من المحال، وحتى لو كان الخير هو الصفة الغالبة على أحوال الأمة... لماذا؟
- لأن الابتلاء من سنن هذه الحياة، وهذا الابتلاء قد يأتي فجأة وبخفاء، ومن يأمن الابتلاءات فيسترخي، فسيكون من الخاسرين، لأنه يكون قد تصرّف على خلاف السنّة.
- وهكذا، فإن من غير الحكمة، ومخالفة السنن أن يتملّك الإنسانَ اليأسُ المستمرُّ من تبدّل الأحوال السيئة -بما فيها من شرور- إلى أوضاع إيجابية من الأمن، والراحة، والاستقرار، حتى على فرض وجود الشرّ في الأمة... لماذا؟
- لأن تبدّل الأحوال من العُسر إلى اليُسر ومن الشر إلى الخير هو أيضاً من سنن الله، والله غالبٌ على أمره.
- وهكذا يكون المؤمن على الدوام بين الخوف والرجاء، متوجِّهاً إلى الله تعالى في الشدّة والرخاء، وفي دعاء الإمام زين العابدين (ع): (اللهُمَّ صلِّ علَى محمَّدٍ وآلِهِ، ولا تجْعَلْني ناسِياً لِذكْرِكَ في ما أوْلَيْتَني، ولاَ غَافِلاً لإحسانِكَ في أبْلَيْتَني، ولا آيِساً مِنْ إجابَتِكَ لي وإنْ أبْطَأتْ عنّي، في سَرّاءَ أو ضَرَّاءَ، أوْ شِدَّةٍ أوْ رَخاءٍ، أوْ عافيةٍ أوْ بَلاءٍ، أوْ بُؤسٍ أو نَعْماءَ، أو جِدَةٍ أوْ لأواءَ، أوْ فقرٍ أوْ غِنَى) يا أرحم الراحمين.