خطبة الجمعة 2 جمادى الآخرة 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: شنشنة المطبّعين

- عندما غزا الصليبيون قسماً من العالم الإسلامي، سقطت بعضُ المدن بأبخس الأثمان.
- على سبيل المثال، عندما وصل الأمير الصليبي (بلدوين الأول) مدينة (سُمَيْساط) التي كانت تقع في الأناضول شمال شرق حلب، أرسل إليه حاكم المدينة السلجوقي (بولدق) يعرض عليه تسليم المدينة بلا قتال، مقابل عشرة آلاف دينار ذهبي، أي أقل من مليون دينار كويتي.. وتم الأمر سنة 490هـ بثمن بخس وضعه ذلك الحاكم في جيبه المبارك.
- وفي القرن السابع الهجري، نشب صراعٌ على المُلك بين أخوين، أحدهما سلطانُ مصر (الكامل ناصر الدين محمد) ابن أخ (صلاح الدين الأيوبي) وبين أخيه (عيسى)، فأرسل السلطان إلى الإمبراطور الألماني (فريدريك الثاني) طلباً للمساعدة في حربه ضد أخيه في مقابل أن يُسلّمه بيتَ المقدِس وجميع فتوحاتِ صلاح الدين بالساحل الشامي! وتمّ له ذلك.
- وعبّر المؤرخ ابن الأثير عن وَقْع هذا الحَدث الأليم على نفوس المسلمين بقوله: (وتسلّم الفرنجُ البيت المقدِس، واستعظَم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له مِن الوهن والتألّم ما لا يُمكن وصفُه؛ يَسّر الله فتحَه وعودَه إلى المسلمين).
- وعلى إثر ذلك، أمر حاكم دمشق بإقامة مجلس عزاء على هذه المصيبة التي حلّت بالمسلمين، وطلب من خطيبها المشهور (سبط ابن الجوزي) أن يتحدث عن تلك المصيبة وكان مجلساً عظيماً.. ومن جملة ما أنشد قصيدةٌ ضمّنها بيتاً من تائية دعبل الخزاعي:
مدارسُ آياتٍ خلت من تلاوة ... ومَنزلُ وَحيٍ مُقفِرِ العَرصاتِ
- وفعلاً فإنَّ شرَّ البليّة ما يُضحِك.. فأحد المطبّلين لهذه الفضيحة في ذلك الزمان، كتب في تبرير ما فعله السلطان بأنه قد اشترط على المحتلّين أن (تُقام فيه الجمعةُ.. ولا يُمنع مسلمٌ مِن زيارته كيف أراد... ولا يُؤخَذُ مِن زائرٍ مالٌ أصلاً، وكان ذلك إن شاء الله تعالى مِن أكبر مصالحِ المسلمين وأعظمِها مما لا يخفى عن ذي بصيرة)! وكأنه يقول: ماذا تريدون أفضل من ذلك؟ صلاة وزيارة وبالمجّان... وكفى الله المؤمنين القتال.
- إنَّ شنشنةَ المطبِّعين وتبريراتِهم الباردة، هي ذاتُها في كلِّ زمان، وتبلغُ مِن الوقاحةِ والاستخفافِ بالعقولِ مداها، مِصداقاً لقوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف:54]، وهو المنطق ذاتُه الذي طُرِحَ في أجواء حُمّى التطبيع مع الكيان الصهيوني خلال السنوات الماضية، وكأنَّ مشكلتَنا مع الاحتلال الصهيوني للأرض، وجرائمِه خلال العقود الماضية كانت مشكلةَ المنعِ من إقامةِ صلاةٍ، أو زيارةِ مسجد. والأخزى من ذلك أن نشهد اليوم -في أجواء العدوان الصهيوني الهمجيّ على غزة- أقلاماً وأبواقاً عربيةً تُزايدُ الإعلامَ الصهيونيَّ في الدفاع عن موقف الكيان الغاصب، وتهاجِمُ المقاومةَ البطلةَ ورموزَها، وتُحمّلُها مسئوليةَ ما يَجري مِن عدوانٍ متوحِّش لا يهدأ. وقد كشفت المقاومَةُ الفلسطينيةُ عبر عملياتِها في طوفانِ الأقصى أسماءَ عددٍ من الأقلامِ والأبواقِ العربيةِ المأجورةِ العميلةِ للأجهزةِ المخابراتيةِ المختصّة في الكيان اللقيط، بما يؤكِّدُ أنّ هذا الطابورَ الخامسَ لا يَعملُ مِن وحيِ قناعاتٍ أو شبهاتٍ أو سَذاجة، بل مِن مُنطلقِ الخيانةِ للإسلامِ والعروبةِ والأوطان، وصدقَ الحسينُ (ع) إذ قال: (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ، وَكُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ، فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ، وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُباً كَمَا تَزعُمُون). ولكن هيهات لهم أنْ يرجِعوا إلى ذلك وقد وَلَغوا مع الصهاينة في دماءِ أطفالِ غزةَ ونسائِها وسيركبُهم الخزيُ أبداً ونحن نشهدُ البطولاتِ المذهلةَ التي يُسطّرُها رجالُ المقاومةِ إذ حَوّلوا أرضَ غزةَ إلى مَقبرةٍ للغزاة.