تفسير سورة الزخرف 57-65 - المسيح يواجه اليهود ويتهمهم بالرياء والنفاق

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
- تعرض هذه الآية الشريفة واحدة من نماذج العناد والاستكبار واللجاج الذي مورس من قبل بحق نبي رسول هو عيسى (ع)، وذلك للتأكيد على السنة التاريخية في هذا الاتجاه، وذلك بعد بيان نموذج سابق مرتبط بموقف فرعون وقومه تجاه النبي موسى (ع).
- كما بيّنت أن موسى (ع) قد جاء إليهم بالآيات المادية، ومع هذا لم يؤمنوا واستهزأوا، وتبيّن هذه الآية الشريفة أن عيسى (ع) قد جاءهم أيضاً بالبينات والآيات المادية من قبيل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وتحويل تمثال الطير إلى طائر حي، كما تحدث وهو في المهد، ومع هذا لم يؤمنوا، واستهزأوا وتآمروا عليه وأرادوا قتله.
- قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ: فليس الغرض من إرسالي إليكم هو المجيء بالآيات البينات، بل هي وسيلة لكي تصدّقوا برسالتي، والغرض الرئيس من رسالتي أن آتيكم بـ (الحكمة).
- وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: وكذلك لرفع بعض الاختلافات التي استغرقتم فيها وتفرقتم من خلالها إلى مذاهب وفرق متنازعة ومتخاصمة بشدة، وأعيدكم إلى شريعة موسى (ع) الحقيقية والمفاهيم الإيمانية والأخلاقية بعيداً عن اختلاقات وأوهام الأحبار.
- عندما احتج اليهود على أتباع المسيح أنهم أكلوا ذات مرة من دون أن يغسلوا أيديهم احتجوا على المسيح أنه لم يدقق في الأمر كما يدققون، فكيف يكون مصدقاً لموسى وتابعاً لشريعته، قال لهم: (6... أَنْتُمُ الْمُرَائِينَ! كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: هذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا، 7 وَبَاطِلًا يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ. 8 لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ: غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ، وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حَسَنًا! رَفَضْتُمْ وَصِيَّةَ اللهِ لِتَحْفَظُوا تَقْلِيدَكُمْ! 10 لأَنَّ مُوسَى قَالَ: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمُ أَبًا أَوْ أُمًّا فَلْيَمُتْ مَوْتًا. 11 وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ، أَيْ هَدِيَّةٌ، هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي 12 فَلاَ تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئًا لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ. 13 مُبْطِلِينَ كَلاَمَ اللهِ بِتَقْلِيدِكُمُ الَّذِي سَلَّمْتُمُوهُ. وَأُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ». 14 ثُمَّ دَعَا كُلَّ الْجَمْعِ وَقَالَ لَهُمُ: «اسْمَعُوا مِنِّي كُلُّكُمْ وَافْهَمُوا. 15 لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 16 إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ»).
- ولما أبدى بعض تلاميذه عدم فهم كلامه قال: (ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 21 لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، 22 سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. 23 جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ»).
- وهناك موارد أخرى مشابهة لهذه فيها تصحيح للمفاهيم والسلوكيات، وهي جزء مما تشير إليه الآية الشريفة، ولذا قال لهم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ).
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64)
- وحيث اتُّهم عيسى (ع) بأنه لا يلتزم بشريعة موسى (ع)، وأنه لربما متأثر ببعض العقائد غير التوحيدية، حيث كانت المعتقدات اليونانية وفلسفتها وكذلك الرومانية وغيرهما منتشرة في بني إسرائيل، لذا أكد لهم خطأ تهمتهم له: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) فأنا لم أتخذ رباً آخر، ولم أنحرف عن عبادته، وعليكم أن تعبدوه وتطيعوه بالطريقة الصحيحة، لا كما تشتهي أنفسكم، وما جاء به موسى وما جئتكم به هو الطريق الذي يجب أن تسلكوه: (هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)، فلا يكفي ادعاء الإيمان دون الالتزام الحقيقي بشرع الله وصراطه.
فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
- كيف كانت نتائج دعوة المسيح (ع) إلى ما سبق؟ هل اتفقت كلمة المتلقّين لرسالته فآمنوا به وصدّقوه؟ الجواب بالنفي، فقد انقسم بنو إسرائيل قبل المسيح إلى أحزاب، وها هم أيضاً ينقسمون في مواقفهم تجاه المسيح بعد رسالته ودعوته.
- فقسم كفر برسالته على الرغم من الآيات البينات التي جاء بها واتهموه بالسجر والدجل والكذب والانحراف وحتى بعدم طهارة المولد.
- وقسم آمن والتزم بتعاليمه كما هي، وقسم آمن به ولكن غالوا في ذلك حتى ادّعوا أنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
- ثم انقسم هؤلاء أنفسهم إلى مذاهب وجماعات متصارعة، كل حزب وفرقة تتهم الأخرى بالهرطقة والابتداع، في أمور فرعية، وتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك مثل:
1. العقيدة في والدة المسيح (ع)، هل ورثت خطيئة آدم كسائر البشر، ولذا فهي تحتاج إلى فداء وخلاص المسيح، أم لا؟ وهل تُعتبر والدة الإله أم لا؟
2. هل المسيح نبي من البشر، أم ابن الله؟ وهل هو ذو طبيعة واحدة مع الله، أم له طبيعته الخاصة ولله (الآب) طبيعته؟
3. التركيز على الإيمان دون العمل الصالح.
4. أثر التعميد (الغُسل)، وهل هو مقدس أم لا، وهل يشترط الغسل أم يكفي الغَسل برش الماء مثلاً؟
5. هل الاعتراف بالذنب والتوبة أمرٌ يحتاج إلى وسيط (كالقسيس) أم يمكن تحقيقه بين المسيحي وربه؟ وهل صكوك الغفران صحيحة أم لا.
6. هل روح القدس منبثق من (الأقنوم الأول: الآب) أم من منه ومن الابن؟
- وقد جاءت هذه الآية لبيان أن المواقف المتباينة من رسالتك -يا محمد (ص)- تتوافق مع سنة إلهية في طريقة تعامل المجتمعات مع الرسل.
- فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ: هذا التهديد يشمل أولئك الذين لم يؤمنوا أو يلتزموا الصراط المستقيم مع المسيح (ع)، وهؤلاء من مشركي قريش وغيرهم ممن لم يؤمنوا أو لن يلتزموا الصراط المستقيم مع محمد (ص).