فقه الأولويات ـ الشيخ علي حسن

النظرة التجزيئية غير المتكاملة لمسائل الدين والشريعة، والتركيز على جانب من النصوص وإهمال سائر النصوص التي تعالج ذات القضية وتُكامِلها مفهوماً وتطبيقاً، وكذلك التركيز على بُعد محدد من القضية دون سائر أبعادها، علاوة على إهمال مقاصد الشريعة وغاياتها النبيلة التي لا تقف عند حد الحكم الشرعي بل وتتداخل معها الجوانب الأخلاقية وتدفع نحو تقديم الأولويات والأهم على المهم.. كل ذلك قد يفضي إلى تكوين صورة ناقصة ومشوهة عن موقف الإسلام من هذه القضية على مستوى المفاهيم، وإلى نتائج وخيمة أو عكسية أو قاصرة على مستوى التطبيق. وفيما يلي أمثلة تطبيقية للفكرة السابقة.
استحباب استلام الحجر الأسود:
في هذا المثال نتلمس قراءة جامدة للمسألة الشرعية وعدم مراعاة لروح الشريعة. فعن أبي عبداللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: (كنت أطوف وسفيان الثوري قريب مني، فقال: يا أبا عبداللّه، كيف كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يصنع بالحَجَر إذا انتهى اليه؟ فقلت: كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يستلمه في كل طواف فريضة ونافلة. قال: فتخلّف عني قليلاً، فلما انتهيت إلى الحجر جزت ومشيت فلم استلمه، فلحقني فقال: يا أبا عبداللّه، ألم تخبرني أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يستلم الحجر في كل طواف فريضة و نافلة؟ قلت: بلى. قال: فقد مررت به فلم تستلم؟! فقلت: إن الناس كانوا يرون لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يرون لي، و كان إذا انتهى إلى الحجر أفرجوا له حتى يستلمه، وإني أكره الزحام).
تظليل المحرم:
في الفقه الجعفري لا يجوز للرجل المحرم أن يستظل بظل متحرك كسقف السيارة، ويجوز له أن يستظل بالثابت كسقف البيت، وفي الحوار التالي نشهد استهجاناً للمسألة الشرعية بسبب عدم الإحاطة الكاملة بحيثياتها. فعن محمد بن الفضيل قال: (كنا في دهليز يحيى بن خالد بمكة، وكان هناك أبو الحسن موسى عليه السلام وأبو يوسف، فقام إليه أبويوسف وتربع بين يديه فقال: يا أبا الحسن - جعلت فداك - المحرم يظلل؟ قال: لا. قال: فيستظل بالجدار والمحمل ويدخل البيت والخباء؟ قال: نعم. قال: فضحك أبو يوسف شبه المستهزئ! فقال له أبو الحسن عليه السلام: يا أبا يوسف إن الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك، إن الله عز وجل أمر في كتابه بالطلاق وأكد فيه شاهدين ولم يرض بهما إلا عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله وأبطلتم شاهدين فيما أكد الله عز وجل، وأجزتم طلاق المجنون والسكران، [وفي رواية أنه قال له ما تقول في الطامث؟ أتقضي الصلاة؟ قال: لا ، قال: فتقضي الصوم؟ قال: نعم. قال: ولم؟ قال: هكذا جاء] حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحرم ولم يظلل، ودخل البيت والخباء واستظل بالمحمل والجدار. ففعلنا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله. فسكت [وفي رواية أنه قال: رماني بحجر دامغ]).
قطع الطواف لقضاء حاجة مؤمن:
ونلاحظ هنا اختلال المعايير لدرجة تدفع المُحاور للاستغراب. فعن أبان بن تغلب قال: (كنت أطوف مع أبي عبد الله [الصادق] عليه السلام فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة، فأشار إلي، فكرهت أن أدع أبا عبد الله عليه السلام وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذ أشار إليّ أيضاً، فرآه أبو عبد الله فقال: يا أبان إياك يريد هذا؟ قلت: نعم، قال: فمن هو؟ قلت: رجل من أصحابنا. قال: هو على مثل ما أنت عليه؟ قلت: نعم. قال: فاذهب إليه. قلت: فأقطع الطواف؟ قال: نعم. قلت: وإن كان طواف الفريضة؟ قال: نعم).
رسالة الدين:
ومن هنا جاءت بعض الدعوات للاهتمام بما يعرف بفقه الأولويات المتضمّن في عدة من الآيات الشريفة مثل قوله سبحانه (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) التوبة: ١٩، وفي بعض الأحاديث كقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (لا قُربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض) لأن عدم الاهتمام بالأولويات والقراءة المشوهة للنصوص قد تدفع المسلم إلى تصرفات ومفاهيم عجيبة كسلوك الخوارج بقتل عبدالله بن خباب بن الأرت وزوجته الحامل بشق بطنها، ونهيهم عن قتل خنزير بري وأكل بضع تمرات سقطت من نخلة!
يجب أن ندرك أن رسالة الدِّين هي رسالة القيم الأخلاقية والروح، والنُّظم الفقهيّة منظِّمة للحياة الاجتماعية تمهيداً لسيطرة القيم الأخلاقية، ومن المؤلم أن نشهد هيمنة الفقه الشّكلاني على القيم الأخلاقية والروحية العليا للإسلام، وننسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخفّف صلاته ليُقبل على صاحب الحاجة.