مفاهيم أخلاقية من هدي القرآن - الصبر

- مقاييس اللغة: (صَبَرَ: الصَّادُ وَالْبَاءُ وَالرَّاءُ أُصُولٌ ثَلَاثَةٌ:
.... فَالْأَوَّلُ: الصَّبْرُ، وَهُوَ الْحَبْسُ. يُقَالُ: صَبَرْتُ نَفْسِي عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ، أَيْ حَبَسْتُهَا.
... وَالْمَصْبُورَةِ الْمَحْبُوسَةُ عَلَى الْمَوْتِ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -ص- عَنْ قَتْلِ شَيْءٍ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا... وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالُوا: صُبْرُ كُلِّ شَيْءٍ: أَعْلَاهُ....
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ فَالصُّبْرَةُ مِنَ الْحِجَارَةِ: مَا اشْتَدَّ وَغَلُظَ).
- من الواضح أن ما نريده هنا هو المشتق من الأصل والمعنى الأول.
- وقال الراغب: (الصبر: الإمساك في ضيق). فلو كنت قد شبعت وأمسكت عن الطعام فلا يقال أني صبرت... بل لابد من أن أكون جائعاً (في ضيق).
- بحسب موسوعة التفسير الموضوعي فقد وردت مادة (ص ب ر) في القرآن الكريم (١٠٣) مرات بـ (6) اشتقاقات (صبروا – تصبروا – اصبروا – صَبْر – صابر– صبّار).
- بعض الآيات القرآنية التي ورد فيها اشتقاق لكلمة (صبَر) لا تمتّ إلى بحثنا الأخلاقي بِصِلة، وذلك من قبيل:
- شريحة: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة:174-175].
- الأسلوب القرآني في الحث على الصبر: ورد الصبر في القرآن بأساليب متنوعة، منها:
- أولاً: أسلوب الأمر:
- شريحة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: ٢٠٠].
- قال العلامة الطباطبائي وهو يتحدث عن صبر الفرد وصبر الجماعة: (فالصبر يراد به الصبر على الشدائد، والصبر في طاعة الله، والصبر عن معصيته. وعلى أي حال هو الصبر من الفرد، بقرينة ما يقابله) أي كلمة وصابروا لأن (.. المصابرة هي التصبّر وتحمّل الأذى جماعة، باعتماد صبر البعض على صبر آخرين، فيتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره. وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد) في مقابل (.. حال الاجتماع والتعاون بإيصال القوى بعضها ببعض).
1- من نماذج الصبر على الشدائد في القرآن ما جاء في قوله تعالى:
- شريحة: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف:35].
- شريحة: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة:177].
2- من نماذج الصبر على طاعة الله: كالعبادة، واتباع النبي، والقتال في سبيل الله، والإنفاق في سبيل الله، .. إلخ.
- شريحة: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم:65].
3- من النماذج المحتملة للصبر عن المعصية:
- شريحة: (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النساء:25].
- فالصبر هنا عن ماذا؟ يمكن أن يقال عن شدة وإلحاح الغريزة، فيدخل في قسم الصبر على الشدائد، وقد يقال عن المعصية وارتكاب المحرمات أيضاً.
- والصَّبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
1)) العلم بقبحها ودناءَتها، وشرف النَّفس وزكاؤها وفضلها وحميتها... وهذا السَّبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يُعَلَّقْ عليها وعيد بالعذاب. وقد روي أن أباذر، وكذلك جدّ جابر الأنصاري منعا نفسيهما من شرب الخمر قبل الإسلام بسبب إدراكهما لقبح ذلك الفعل.
2)) الحياءُ من الله سبحانه.
3)) مراعاة نعمه وإحسانه، فإنَّ الذُّنوب قد تُزيل النِّعم المادية والمعنوية.
4)) التقوى وخوف الله وخشية عقابه.
5)) محبَّة الله سبحانه. وهي مرحلة راقية من العلاقة مع الله.
6)) العلم بأنَّ الله إنَّما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدَّنايا والرَّذائل، وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
- ويمكن أن أضيف قسماً آخر من الصبر أشار إليه القرآن، وهو الصبر على الفضائل ومكارم الأخلاق، من قبيل العفو والامتناع عن المقابلة بالمثل بسبب الظلم الواقع عليه:
- شريحة: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [الشورى:41-43].
- وقد يصدر الخلُق الكريم عن بعض الناس من دون دافع ديني، بل بدافع الفطرة الإنسانية، أو التطبّع بطبع كريم، فلا يكون من قسم الصبر على الطاعة.
- وقد يدخله البعض في قسم الصبر على الطاعة بلحاظ أن المراد من الطاعة ما هو أعم من مجرد ما يكون بدافع طاعة الله، فالمقصود به كل فعل حسن.
- وقد يقال أن العفو في مثل هذا الموقف الصعب هو من الصبر على الشدائد النفسية.
- ويمكن أن أضيف قسماً آخر من الصبر أشار إليه القرآن، وهو الصبر في طريق التعلم والتكامل، وهو ما نشهده في قصة موسى والعبد العالم:
- شريحة: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)[الكهف:65-70].
- وقد يدخله البعض في قسم الصبر على الطاعة بلحاظ أن المراد من الطاعة ما هو أعم من مجرد ما يكون بدافع طاعة الله، فالمقصود به كل فعل حسن.
- ويمكن أن يقال أن هذا الصبر يدخل في الصبر على الشدائد، لأنه نوع من الابتلاء.
- ثانياً، أسلوب الثناء على الصابرين وبشارتهم:
- شريحة: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة:177].
- ثالثًا، بيان العاقبة الحسنة للصابرين:
- في الدنيا: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120].
- في الآخرة: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:22-24].
- رابعاً، الأسلوب القصصي:
- مثال ذلك ما جاء في قصة إبراهيم (ع): (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ...) ثم تسرد الآيات صبر إبراهيم على توحيد الله، ورفض الشرك، وقيامه بتحطيم الأصنام، ثم القرار الذي اتُّخذ من قبل قومه لمعاقبته: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ، وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات:83-113].
- نلاحظ أن إبراهيم صبر على:
1)) الإيمان بالتوحيد ونبذ الشرك.
2)) الدعوة إلى الله وتوحيده.
3)) العقوبة المقررة به: الإحراق بالنار بصورة رهيبة حيث وُصفت بالجحيم والإلقاء.
4)) الهجرة من دياره والغربة.
5)) انقطاع النسل إلى سن متقدمة على الرغم من تضحياته وعلاقته بالله ونبوته.
6)) الاستجابة لأمر الله بشأن قرار هو من أصعب القرارات على الأب (ذبح وحيده).
- والنتيجة أن الله تعالى:
1- أنقذ ولده الوحيد إسماعيل من الموت.
2- جعل ذبح الكبش عبادة من العبادات ضمن مناسك الحج على مرِّ التاريخ.
3- رزقه ولداً آخر هو إسحاق.
4- ضمن له امتداد الذرية من الفرعين الإسماعيلي والإسحاقي.
5- جعل من ذريته عبر الزمن ومن الفرعين من يُكمل مسيرة النبوة والرسالة من بعده.
6- جعل من ذريته مؤمنين مبارَكين محسنين صالحين.
- وهكذا كانت نتيجة الصبر على الإيمان والطاعة والدعوة والشدائد عظيمة جداً.
- ويمكن أن نستفيد من كل ما سبق أهمية التنويع في الأساليب التربوية والتعليمية، سواء في الخطاب الديني، أو التعليم، أو تربية الأبناء، وأن لا يقتصر ذلك على الأمر والنهي.