خطبة الجمعة 24 جمادى الأولى 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: إذا الملح فسد

- توقفت في الخطبة الأولى قليلاً عند ما روي عن علي (ع) أنه قال: (أفضلُ العبادةِ العَفَافُ)، وبيّنت كيف يمكن أن نفهم هذه المقولة العلوية، وسأتوقف عند بعض تطبيقاتها.
- سئل علي (ع) عن أحوال العامَّة، وما عندهم من فسادٍ على كافة المستويات، فلم يرتضِ (ع) أن يُلقيَ باللائمة عليهم، بل اعتبر أن الإنصاف أن نبحث عن الأسباب الحقيقية لما وراء ذلك، ولذا قال: (إنَّما هي مِن فساد الخاصَّة) أي [النُخبة] بحسب تعبيرنا المعاصر، النخبة الذين يقودون المجتمع، ويحدِّدون مصيره، ويُعوَّل عليهم في تحقيق التنمية على الأصعدة المختلفة. وفي المثل: (من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد).
- ثم بدأ (ع) بتقسيم هذه النخبة إلى فئات، قال: (وإنَّما الخاصَّة ليُقسّمون على خمس: العلماء، وهم الأدلَّاء على الله. والزُّهاد، وهم الطَّريق إلى الله. والتُّجَّار، وهم أمناءُ الله. والغزاةُ، وهم أنصارُ دين الله. والحُكَّام، وهم رُعاةُ خلق الله).
- ثم قام (ع) ببيان الآثار السلبية المترتبة على فساد كل فئة من هذه الفئات وذلك عندما تغيب العفّة، ويسقط الإنسان في وحول الأطماع والرغبات الشخصية التي لا حدّ لها.
- فتحدّث أولاً عن فئة العلماء: (فإذا كان العالم طمَّاعاً، وللمالِ جمَّاعاً، فبمَن يُستدلُّ؟) أي كيف يهتدي الناس إلى دين الله تعالى وصراطِه المستقيم من خلال علماء دين هذه صفتهم؟ وكيف يحصل الناس على المعارف والعلوم إن رُهِن ذلك بجشع العلماء الذين قد يحجبون علومَهم ما لم ينالوا في مقابله ما يُشبع أطماعَهم؟
- ولنتصوّر مواقعَ دينٍ بلا عفّة... وشخصياتٍ دينيةٍ بلا عفّة... كم تُدمِّر هذه المواقعُ وهذه الشخصيات الدِّينَ في نفوس الناس، بكونها مُثُلاً سيِّئة... وكم تسرقُ من النَّاسِ إيمانَهم، والتزامَهم. وكم تُمثِّل مواقعَ فتنٍ، وعصبيَّاتٍ، وخلافاتٍ، وصراعات، وأيّ منظومةٍ
من المفاهيم والقيم والمُثل تزرعُها في نفوس المتلقّين؟
- ثم عرّج (ع) على الفئة الثانية التي يتطلع إليها عامّة الناس على أنها الأكثر نزاهةً وروحانية، ولذا تكون عندهم في موقع التأسي والاقتداء: (وإذا كان الزَّاهد راغباً، ولِمَا في أيدي النَّاس طالباً، فبمن يُقْتَدَى؟).
- والفئة الثالثة التي ترتبط بحركة المال: (وإذا كان التَّاجرُ خائناً، وللزَّكاة مانعاً، فبمَن يُستوثق؟) ومن المعلوم أن فقدان الثقة في حركة المال يعني تدمير التجارة والاقتصاد.
- والرابعة فئة المحافظين على الأمن والعسكريين: (وإذا الغازي مرائياً، وللكسب ناظراً، فبمَن يُذبُّ عن المسلمين؟) فإذا لم يتحلّوا بالعفّة عن البحث عن المصالح الشخصية والتركيز على المكاسب المادية، ولو بالطرق غير المشروعة من قبيل الرّشوة، فإنهم
سيمثّلون الخاصرة الرخوة في المجتمع، بتراخيهم عن العمل، وسهولة اختراقهم أمنياً.
- والخامسة هي فئة السياسيين الذين يديرون البلاد، ورجال العدالة وعلى رأسهم القضاة، ورجال التشريع والتقنين الذين يضعون قوانين البلاد: (وإذا كان الحاكم ظالماً، وفي الأحكام جائراً، فبمَن يُنتصر للمظلوم على الظَّالم؟).
- وعندما تنزع المواقعُ السياسةُ عنها رداءَ العفّة والنزاهة، فإنها ستعرّض الوطن إلى مخاطر التفكّك، والنزاعات العنيفة، وضعف أو انعدام التنمية، وتطميع المتربّصين به في الداخل والخارج.
- ثم ختم (ع) قائلاً: (فَوَ اللهِ، ما أتلف النَّاسَ إلَّا العلماءُ الطَّمَّاعون، والزُّهَّادُ الرَّاغبونَ، والتُّجَّار الخائنون، والغزاةُ المراؤون، والحُكَّام الجائرون، [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ
يَنقَلِبُونَ]).
- إنَّ الحَياة، في كلِّ جوانبِها الدينية والدنيوية، في العبادة، وفي العِلم، والثقافة، والعلاقاتِ الاجتماعية، وحركة المال، والتجارة، والأمن، والسياسة، بحاجةٍ ماسةٍ إلى النزاهةِ والعفّة، بكفِّ الفكرِ والروحِ والجوارحِ عن القبائح وعمّا لا ينبغي والترفّع عليها.. عن الظلم، والسرقةِ، والقسوةِ، والجريمةِ، والإفساد بين الناس، وإشاعة الفاحشة، والأثَرة، ومنع الناس عن حقوقِهم... ولذا فإنّ من شأنِ هذه العفّةِ وطهارةِ الفكرِ والروحِ والجوارحِ أن تصنعَ الأمن، وتُحقِّقَ العدالة، وتُرسِّخَ السلام، وتنشرَ الوئام بين الناس على مختلف طبقاتهم.. في المجتمع الواحد، وبين المجتمعات، ومِن هنا كان (أفضلُ العبادةِ العَفَافُ) كما روي عن علي (ع). ولابد من الوقوف أخيراً عند العدوان الصهيوني على غزة وبطولات المقاومة... فعلى الرغم من مرور أكثر من شهرين على ذلك، وبعد كل المشاهد المرعبة للوحشية الصهيونية، المبثوثة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، تدميراً، وقتلاً، وتجويعاً، وحصاراً قاتلاً، وعدواناً على المستشفيات، وطواقم الإسعاف، ومراكز الإيواء، والإعلاميين... وبعد استشهاد وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة، إلا أن بعض الدول الاستكبارية ما زالت تصرّ على أنه لم يثبت إلى الآن أن الكيان الصهيوني قد تعمّد قتل المدنيين!! أكثر من 17 ألف شهيد، وعشرات الآلاف من المصابين، ثلثاهم من النساء والأطفال، وإسقاط ما يتجاوز أربع قنابل ذرية من المتفجرات على رؤوس المدنيين، ولم يثبت عندهم شيء، بل وأعطوا الصهاينة الضوء الأخضر للمزيد من القتل والتدمير الوحشي، وأرفدوهم بما يمكّنهم من المضي والاستمرار في ذلك!! إن فشل الصهاينة في تحقيق أيةِ نتيجةٍ عسكريةٍ تُذكر في القطاعِ، دفعهم إلى المزيدِ من هذهِ الوحشيةِ منقطعةِ النظيرِ في الانتقامِ مِن المدنيّين، ولكن ستأتي اللحظةُ التي تُجبرُهم -بإذن الله تعالى- على أنْ يَخضَعوا لشروطِ المقاومة التي مرّغَت أنوفَهم في التراب مِن قبل، وستمرّغها مرة أخرى بحولٍ مِن الله وقوّة.