خطبة الجمعة 3 جمادى الأولى 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مكر الشياطين
- المكر -لغوياً- هو التدبير الخفيّ ضد الآخر، لا بما يوافق مصلحته، بل ضده. فأحياناً نحن نقوم بترتيبات سرية من أجل تكريم شخص مثلاً من دون علمه، وهذا ليس بمكر.
- في القرآن الكريم حديث متكرّر عن المَكر البشري والمكر الإلهي، وكيف أن أصحاب النوايا الشريرة يجتمعون سراً، فيخطّطون، ويمكرون، ويبدأ التنفيذ، وتبدو الأمور وكأنها تسير وفق ما خطّطوا له، فإذا بالتدبير الإلهي الخفي -ومن حيث لا يشعرون- يقلب الأمور رأساً على عقب، ويكون مآل كل الجهود الشيطانية على عكس تخطيطهم تماماً.
- في سورة يوسف مثلاً، حديثٌ عن مكر إخوة يوسف به: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف:102].
- لقد كانت خطتهم أن يتخلصوا منه، وكان الاقتراح الأول أن يقتلوه، ثم تغيّر رأيهم واستقرّ على أن يجعلوا منه عبداً يُباع في أرض غريبة: (قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) [يوسف:10].
- كان هذا مكر الإنسان... وقد سعى الإخوة أن يُحكموا خطتَهم، ولكن مكرَهم اصطدم بالمكر الإلهي... فإذا بيوسف -في غضون سنوات- يغدو مسؤولاً كبيراً، ذا مكانة رفيعة، وكلمة مسموعة، في دولة عظمى في ذلك الزمان: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:56].
- كيف تغيرت مُجريات الأحداث؟ وما الذي أفسد خطة إخوة يوسف وجاءت على عكس مرادهم تماماً؟ إنها إرادةُ الله ومكرُه الذي لا رادّ له: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) [يوسف:76].
- وحيكت المؤامرات على عيسى (ع)، ووُجِه بشتّى أنواع الاتهامات والضغوطات، فما آمن به إلا عددٌ قليلٌ من الناس: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 52].
- ثم استقرّ رأي المتآمرين -من يهود وبيزنطيين- على قتله، ولكن النتائج جاءت على خلاف ما أرادوا.. وإذا بدعوته -على مدى العقود اللاحقة- تمتد بين اليهود أنفسهم، وفي أرجاء الامبراطورية البيزنطية، وتلقّى اليهود من البيزنطيين ضربة مدمرة أنهت وجودهم في فلسطين، وفي غضون ثلاثة قرون، صارت الامبراطورية البيزنطية راعية المسيحية!
- وصدق الله تعالى إذ قال: (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:55].
- ما الذي غيّر مآلات هذه المؤامرة وهذا المكر؟ تجيب الآية في نفس السياق من السورة فتقول: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران: 54].
- كانت هذه رسائل قرآنية للنبي (ص) من أجل طمأنته بأن المؤامرات التي يحيكها أعداؤه قد تنجح جزئياً، وفي مقطعٍ زمنيٍّ محدود، ولكنّ الله لن يمكّنهم من بلوغ غاياتهم النهائية ما دام الطرف المظلوم الذي تُحاك ضدّه المؤامرات قد ارتبط بالله تعالى، وتحمّل مسئولياته، وتوكّل عليه (سبحانه).
- وحينها ستأتي النتائج على عكس المؤامرات تماماً، ولو بعد حين: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:10].
- وهذا ما أدركته العقيلة زينب وهي تواجه مكرَ بني أمية ومؤامرتَهم في سعيهم للقضاء على وديعة النبي (ص) المتمثلة في عترته، وبيّنته بكل صراحة وعن بصيرة بمفهوم المكر الإلهي حيث قالت ليزيد: (... فوَ اللهِ ما فَرَيتَ إلاّ جِلْدَك، ولا جَزَزْتَ إلاّ لحمك... ولئن اتّخَذْتَنا مَغْنَماً، لَتجِدَنّا وشيكاً مَغْرَماً، حين لا تجدُ إلاّ ما قدَّمْتَ، وما ربُّكَ بظَلاّمٍ للعبيد، فإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل. فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدك، فوَاللهِ لا تمحو ذِكْرَنا، ولا تُميت وحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تَرحضُ عنك عارَها، وهل رأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامُك إلاّ عَدَد، وجمعُك إلاّ بَدَد؟! يوم ينادي المنادي: ألاَ لَعنةُ اللهِ علَى الظالمين).
- قبل قرابة خمس سنوات، حيكت مؤامرة عالمية محكَمة من أجل القضاء على القضية الفلسطينية، واختير لها عنوان (صفقة القرن)، وتزامنت معها حركة سياسية وإعلامية محمومة للترويج لتطبيع الحكومات والمجتمعات العربية مع الكيان الصهيوني. في تلك الأيام، خُيّل لكثيرين أن مآلات الأمور لابد وأن تتوافق مع هذا المكر الشيطاني، وأنه لا مكان في عالم السياسة بعد اليوم إلا للمتصهينين... ومن هنا، هرول سياسيون، وإعلاميون، ومشاهير التواصل الاجتماعي، ورجال دين، وغيرُهم، لكسب ود الصهاينة، وإعلانِ الولاءِ لمخطَّطِهم الخبيثِ الرامي لبيعِ ما تبقّى مِن أراضٍ فلسطينية، وكأنّ أهلَها عبيدٌ يُباعون في سوق النخاسة الصهيونية، واستُهزئ بالمسجد الأقصى المبارك، وطَعنوا في شرعيّته، وتجاهر البعض بالعلاقة بالصهاينة، وتلاعبوا في دلالات الآيات القرآنية وأخبار السيرة النبوية ووظّفوها في تبرير (مشروعية) بيع القضية الفلسطينية، وتجريمِ الحقِّ الطبيعي والقانوني والشرعي للفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم ووطنِهم وشرفِهم ومقدّساتِهم، فكانوا خير مصداقٍ لقوله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة:52]. لقد غفل الذين في قلوبهم مرض عن أنّ هذا المكرَ الشيطاني، يقابله مكرٌ إلهي، ما دام في الأرض، ولاسيما في فلسطين (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ... وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)، فجاء طوفان الأقصى، وصدق الله إذ قال: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الحشر:2]، ولاحت تباشيرُ المكرِ الإلهي تتجلّى، فإذا بالصوت المناصر لفلسطين وقضيتِها وشعبِها يرتفع على كل صوت، لا في عالمِنا العربي والإسلامي فحسب، بل في قلبِ واشنطن، ولندن، وباريس، وغيرِها من عواصم العالم. ولقد تابعتُ وتابعتُم المظاهراتِ التي عمّت تلك العواصم، وشهدتم التنوّع في المتظاهرين حتى شمل اليهود أنفسَهم، وشهدتم الحماسةَ بصورةٍ غير مسبوقة بتاتاً... ما الذي يجري في العالم اليوم؟ إنه طوفان الأقصى الذي عصف بالكرة الأرضية أجمع، فعرّى الوجهَ القبيح للصهيونية المجرمة، وبثّ الحياة من جديد في واحدةٍ من أعدل القضايا في تاريخ الإنسانية، لنشهد مرة أخرى صدقَ الوعدِ الإلهي، وهو القائل سبحانه: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30].