خطبة الجمعة 26 ربيع الثاني 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: قابيل


- تحدّث القرآنُ الكريم عن قصةِ ابنَي آدم، وبدأ عرضَ القصةِ كالتالي: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) واستمرّت الآيات بعرض تطور الأحداث إلى أن انتهت بنبأ مقتل أحدِهما... وأما الآخر (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:27-30].
- ثم تأتي الآية 32 فتقول: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).
- نحن نعلم أن قتل النفس البشرية خارج إطار المسوِّغات الخاصة جداً -كالقصاص- يُعتبر جريمة، ومِن عظائم الذنوب، بل إنّ الآية السابقة تعتبر أن قتل نفسٍ واحدة بمثابة
قتل الناس جميعاً، أي أن العدوان على فرد بالقتل عدوانٌ على كل البشرية بذلك.
- كما ونعلم أن هذه الجريمة قد تصدر عن أي إنسان، بغض النظر عن قوميته ودينه.
- ولكن اللافت أن الآية خصّت بني إسرائيل بهذا الأمر: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أي بسبب وقوع هذه الجريمة بأبشع صورها، إذ أن الأخ قتل أخاه بدمٍ بارد ومن دون أن يكون قد صدر منه ما يستحق القتل (كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).. لماذا خصوص بني إسرائيل؟ ولماذا تم تذكيرهم بذلك؟
- نفس الآية تقدّم الإجابة: (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)... إسراف في ماذا؟ إسراف في القتل، وفي تجاوز هذا التحريم الإلهي.
- وقد دلّت الآيات السابقة للقصة -عندما تناوَلت سلوكيات بني إسرائيل وتاريخَهم- أنَّ
فيهم مِن الحسد، والكِبر، واتّباع الهوى، وإدحاض الحق، ما يجعلهم دمويين.
- هل كان ذلك منهم جهلاً بحرمة ذلك؟ أبداً: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) هكذا يخبرنا القرآن الكريم.. أي أن الأمور والأحكام والدلائل كانت واضحة وجليّة.
- ولو رجعنا إلى التوراة، فسنجدها في مواضع عديدة تثبّت حرمة القتل، لا بخصوص بني إسرائيل، فحسب بل مطلق النفس البشرية، ومن ذلك ما جاء في ما يُعرف بالوصايا العشر التي سماها القرآن (الميثاق)، ففي الإصحاح 20 من سفر الخروج بعد التأكيد على توحيد الله وإكرام الأبوين: (لاَ تَقْتُلْ)، وفي الإصحاح 21 بيان لعقوبة القاتل: (مَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا فَمَاتَ يُقْتَلُ قَتْلًا). وفي الإصحاح 24 من اللاويين: (وَإِذَا أَمَاتَ أَحَدٌ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ). وفي الإصحاح 35 من سفر العدد (كُلُّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَعَلَى فَمِ شُهُودٍ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ).
- ونجد في المشناة، وهي التعاليم الشفوية للشريعة الموسوية، بعد الإشارة إلى قتل أحد ابني آدم لأخيه النص التالي: (مَن أهلك نفساً بشرية واحدة، يحسبه الكتاب كأنه يُهلك العالم كلَّه، ومن ينقذ نفساً واحدة من إسرائيل، يحسبه الكتاب كمن يخلّص العالم كله).
Who destroys one soul of a human being, the Scripture considers him as if he should destroy a whole world, and him who saves one soul of Israel, the Scripture considers him as if he should save a whole world.
- ومن الواضح أن العبارة السابقة هي ذاتها النص المشار إليه في سورة المائدة، وهذه مجرد نماذج من نصوصهم.
- ومع كل هذا البيان والتكرار، ارتكبوا ما ارتكبوه من جرائم قتل على مرّ التاريخ، حتى بحق أنبيائهم: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) [النساء:155]... كان هناك ميثاق بينهم وبين الله تعالى أن لا يقتلوا النفس المحرّمة، ولكنهم لم يأبهوا لذلك حتى بحقّ الأنبياء، ومن ذلك مسعاهم لقتل المسيح (ع).
- وحيث لم يشبعوا مِن ذلك، واستهانوا بأمر سفك الدماء واسترخصوها، صاروا يقتلون بعضَهم بعضاً: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ...) فهل التزموا بالميثاق؟ (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ...)[البقرة:84-85]. هكذا هو تاريخُهم الذي لا يشبع من سفك الدماء.
- إنّ حقّ الإنسان في الحياةِ والأمنِ، في نفسه، وفي معيشته، وفي موطنه، حقٌّ طبيعيٌّ وفطري، لم يقرِّره الناس، ولم يَهبه القانون، فالحياة هبةُ الله سبحانه، والإنسانُ خليفتُه في الأرض، ولذا فهو يتمتع بالكرامة والاحترام الذاتيين: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء:70]، ومن هنا فقد جعل الله تعالى العدوانَ على النفسِ البشريةِ الواحدة -مِن دونِ وجهِ حقّ- عدواناً وإجراماً على البشريةِ ككُل. ومع هذا كلِّه، فإنّ الشرائعَ الإنسانيةَ المختلفةَ تُقرّرُ ذلك وتؤكدُه، وتعتبرُ أنّ التجاوزَ على حقِّ الفردِ في الحياةِ والأمنِ جريمةٌ يعاقبُ عليها القانون، ولذا فإنّ المجازرَ التي يرتكبُها الصهاينة اليوم في فلسطين، ولاسيما في غزة، جرائمَ بحقِّ الإنسانية ككل، وهي مِن حيث الكم والكيفِ تفوقُ الوصف، وتتجاوزُ كلَّ الحدود، وتنتهكُ كلَّ القوانين، وتتجاوزُ على كلِّ الحُرُمات، ولم يعُد بالإمكان إدعاءُ عدمِ العلمِ بها، إذ صارت تُرتَكب أمامَ مشهدٍ ومسمعٍ مِن العالم أجمَع، وما أوقحَ تصريحَ ذلك المسئولِ الغربيِّ الذي قالَ بالأمس أنه لا توجد أدلة على أن إسرائيل ارتكبت جرائم حربٍ في غزة! ومن هنا، تزدادُ هذه الآلةُ المتوحشةُ توحّشاً وإجراماً كل يوم، لأن قوى الاستكبار العالمي ما زالت تزوّدُهم بكلِّ وسائلِ القتلِ والتدميرِ الفظيعة، وتدافع عنهم في المحافل السياسية، انتقاماً من كلمة (كلا) التي أطلقها أهلُ غزةَ في وجه المشروع الشيطاني بتهجيرِهم إلى سيناء والأردن، وانتقاماً لشعورهم بالخزيِ لتحطيمِ الصورةِ الأسطوريةِ للآلةِ العسكريةِ الصهيونيةِ. وإذا كان الله تعالى قد قال لنبيه (ص): (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فإننا نقول للمقاومة البطلة: وإذ يمكرُ بكم الذين تَصهينوا ليُثبتُوكم أو يَقتلوكم أو يخرجُوكم، ويمكُرون ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين، وسينصرُكم الله ما ثبتّم، وَعْدَ الصدق، وما أروعَ ثباتُكم اليومَ وبطولاتُكم! أخيراً، غداً سيكون يوم النداء الدولي لإيقاف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والمؤمَّل أن يشارك كلٌّ منا بطريقته وإمكاناته الخاصة بالمساهمة في إيصال هذا النداء إلى العالم، وبشتى اللغات.