تفسير سورة الزخرف 26-32 - ما هي الكلمة التي صارت باقية في عقب إبراهيم ؟ ولماذا؟
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ 26
- كانت الآيات السابقة من السورة تتحدث عن القرى التي أرسل إليها النذر، وموقف المترفين منها، والانتقام الإلهي المترتب على ذلك: (فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ25)، وأعقب ذلك ذكر رسالة إبراهيم (ع) وما قام به من إنذار وبيان.
- المعنى: واذكر قول إبراهيم لأبيه وقومه قولاً صريحاً في التبرّؤ من عبادة الأصنام.
س: لماذا خُصَّ أبو إبراهيم بالذكر قبلَ ذكر قومه وما هو إلا واحد منهم؟
1) لبيان أن هذا الأمر لا يُتسامَح فيه، لأهميته، فلو كان لإبراهيم أن يغض عن هذا الأمر لغض عن فعل أبيه، ولكنه بادره بذلك ولم يفعل.
2) لبيان اهتمامه الشديد بمصير أبيه، وفي هذا دلالة على برّه ووفائه وإحسانه.
3) لإبطال حجة المشركين من قريش إذ قالوا كما في الآية 22: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ). فلا قيمة لهذه الحجة ولم يعتن بها إبراهيم الذي تنتسبون إليه وتفخرون بأنه جدكم وأنه الذي أسس كعبتكم، وأنكم تحجون بحجه.
إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ 27
س: هل هذا الاستثناء منقطع أم متصل؟
عندما أقول: (رأيت أولادي إلا حسن) وعندي ولد اسمه حسن، فإن هذا الستثناء متصل، بلحاظ أن المستثنَى (حسن) فرد من أفراد المستثنى منه (أولادي).
وأما عندما أقول: (رأيت أولادي إلا كتاب)، فالاستثناء منقطع، لأن المستثى (الكتاب) ليس فرداً من أفراد المستثنى منه (أولادي).
فهل كان قوم إبراهيم يعبدون الله والآلهة الأخرى، فتبرأ من عبادتها إلا الله، فيكون الاستثناء متصلاً، أم لم يكونوا يعبدون الله، والاستثناء منقطع؟
ج: قال العلامة الطباطبائي وآخرون أن الاستثناء منقطع، حيث لم يكونوا يعبدون الله. ولربما دل على ذلك: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ، قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) [الأنبياء:51-56].
- فَطَرَنِي: أي الذي أوجدني، وهو الله سبحانه، فإن الفَطر والإيجاد لا ينفك عن تدبير أمر الموجود المفطور، فالذي فطر الكل هو الذي يدبر أمرهم فهو الحقيق أن يعبد.
- فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ: وهذا دليل آخر على أنه الرب الذي يستحق العبادة.
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 28
الاحتمال الأول: الله جعل كلمة إبراهيم السابقة باقية في عقبه... فما هي الكلمة؟ (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي)... أي ما يقابل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله. والبقاء في عقب إبراهيم يعني استمرار حمَلة التوحيد من ذريته (كرسول الله)، لعل المشركين من ذريته (كقريش) يرجعون عن الشرك.
الاحتمال الثاني: جعل إبراهيمُ كلمةَ التوحيد باقية في عقبه بالتعليم والتوصية: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [البقرة: 132]. رجاء أن يرجع إليها كل من حاد عنها ممن يعاصرونهم.
الاحتمال الثالث: جعل الله (الإمامة) كلمة باقية في عقبه. ففي مجمع البيان في قوله تعالى: «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ»: (وقيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبد الله [ع]). كيف؟ قيل: الإمامة من الهداية، والضمير في «وَجَعَلَهَا» يعود إلى الهداية بلحاظ قوله في الآية السابقة: (سَيَهْدِينِ).
- قال العلامة الطباطبائي: (ويظهر من الآية أن ذرية إبراهيم [ع] لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة). وكان إبراهيم حريصاً على الدعاء بذلك: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم:35].
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاء وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ 29
- فما الذي جرى في تاريخ ذرية إبراهيم؟ هل تركوا الشرك والتزموا التوحيد؟ كلا فإن ذريته من قريش المعاصرين للنبي (ص) -مثلاً- مشركون في الغالب الأعم، وحتى آباؤهم كانوا مشركين، فقد كان ترك ذرية إبراهيم -على مدى الزمان- للشرك والتزامهم التوحيد غاية مرجوة، لكنهم اختاروا خلاف ذلك، وهكذا فعل آباؤهم من قبل، فهل أهلكهم الله؟ كلا، بل جعلهم يتمتعون بالحياة إلى أن جاءهم (الْحَقُّ) القرآن (وَرَسُولٌ مُّبِينٌ). فماذا كان موقفهم؟
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ 30
- لقد اعتبروا القرآن -وهو الحق- سحراً، واتخذوا موقفاً سلبياً منه إذ كفروا به.
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ 31
- الأمر الآخر الذي طرحوه واعتبروه عائقاً عن الإيمان بالقرآن وبالرسول والرسالة هو عدم اقتناعهم بشخص محمد (ص)، واستهانتهم بشأنه، متحججين بأنه لو كان الرسول رجلاً آخر من مكة أو الطائف بحيث يتصف بالعظمة بحسب معيارهم لقبلنا الدعوى... فما معيارهم في العظمة؟ المال والجاه في أوساطهم. وهو ما كان يفتقده النبي (ص)، فلم يكن بذي مال، ولم يكن من وجهائهم، وإن اتصف بالصدق والإيمان، ولكن في قريش والطائف شخصيات كانت تحل وتربط في ذلك الزمان، فلماذا لم يتم اختيارهم من قبل الله؟
- فبماذا جاء الرد عليهم؟ ستكون لنا وقفة مع هذا في الأسبوع المقبل بإذن الله تعالى.