مفاهيم أخلاقية من هدي القرآن - الإنصاف

- ابن منظور: لسان العرب: النَّصَفةُ والإنْصاف: إعطاء الحق.
- لم يرد مصطلح (الإنصاف) في القرآن الكريم، ولكن القرآن تحدث عنه من خلال تقديم أمثلة عملية. ونفهرس ذلك كالتالي:
أولًا: إنصاف العبد ربّه: أعظم الحقوق على العبد على الإطلاق حق الخالق سبحانه، لذا فإن أعظم أنواع الإنصاف الذي يجب الالتزام به: أن ينصف العبد ربه.
س1: كيف يتحقق إنصاف العبد للمعبود سبحانه؟
ج1: قلنا أن معنى الإنصاف لغوياً أن تعطي الآخر حقَّه، وهذا يعني أننا إذا أردنا أن نُنصف الله -وهو الغني عنا- أن نوفّيه حقه.
س2: وما حق الله على عباده؟
ج2: حق الله تعالى توحيده، والتوحيد يستلزم تحقيق العبودية له بالطاعة.
- في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع) والراوي أبوحمزة الثمالي: (اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقاً محيطةً بك في كل حركة حركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلّبتها، أو آلة تصرّفت بها، بعضُها أكبر من بعض، وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع) أي أن حق الأم والأب والجوارح ووو... كلها متفرعة من حق الله علينا (.... فأما حق الله الأكبر عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة) أي أن هذا التوحيد بإخلاص مفتاح فلاح الإنسان، لا بمعنى عدم الحاجة إلى الركائز الإيمانية والعملية الأخرى، بل هذه هي القاعدة المؤسسة لكل شيء بعدها.
- مثال على حق الله الأكبر وما يتفرع عنه: شريحة: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الأنعام:151-152.
- ما جاء في الآيتين من الميثاق الإلهي مع المؤمنين بالرسالة المحمدية. وتحقيق العبودية يقتضي الالتزام بمثل هذه المواثيق، وهذا من إنصاف المخلوق للخالق.
- ثم من حق الله الذِّكر والشكر:
- شريحة: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) البقرة:152.
- مثال قرآني على عدم الإنصاف مع الله: شريحة: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس:34-35]. الإنصاف يقتضي الإيمان بألوهيته واتباعه.
- مثال قرآني على عدم الإنصاف مع الله: شريحة: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفُورًا) الإسراء:67. الإنصاف يقتضي الارتباط بالله في الشدة والرخاء.
- مثال قرآني على عدم الإنصاف مع الله: شريحة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ) الأعراف:189-192. الإنصاف يقتضي شكر الله على نعمه واستحابة دعواتنا.
ثانيًا: إنصاف النبي (ص):
- كان النبي (ص) هو الواسطة البشرية في الرسالة الإلهية المنزَلة، والمبلِّغ عن الله، والهادي إلى الحق، والأسوة الحسنة، ومَن شقى من أجل هداية الإنسان.
- فللنبي (ص) حقوق علينا.. فكيف ننصفه في هذه الحقوق؟
1- شريحة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنفال: 20-21]. بالطاعة والاتباع.
2- شريحة: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65]. التسليم التام لحكمه
3- شريحة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21]. التأسّي والاقتداء
4- شريحة: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24] تقديم حبه.
5- شريحة: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157] التعظيم والتوقير (أو الإعانة) والنصرة.
6- شريحة: (قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) [الشورى:23]. مودة قرباه
ثالثاً: إنصاف الناس:
- إعطاء الآخرين حقوقهم بغض النظر عن أي عنوان ديني أو عرقي أو اللون... إلخ.
- شريحة: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين 1-3].
- فكما تحب أن تستوفي حقك عند الشراء، أوفِ للناس حقهم عندما تبيع لهم.
- ملاحظة استعمال كلمة (الناس) بما يدل على عمومية تطبيق القاعدة بغض النظر عن التمايز الديني فيما بينهم.
- شريحة: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:6-11].
- الخطاب موجه لرسول الله (ص) حيث تبدأ الآيات بتذكيره بأوضاعه الخاصة السابقة ومعاناته وأمنياته آنذاك:
1) اليُتم: ما هي معاناة اليتيم؟
2) ضال: ما هي معاناة من يشعر بالضياع؟
3) العيلولة (الفقر): ما هي معاناة الفقير؟
- ثم مطالبته بأن يتعامل مع الآخرين وفق التجربة التي عاشها وما كان يتمناه لنفسه (الإنصاف).
- مجدداً، لم تخصص الآية في حديثها التوجيهي هذا عنوان اليتيم أو السائل والمحتاج، بل هو حديث مطلق، لاسيما بلحاظ أن الضحى من أوائل السور المكية، وغالبية المجتمع آنذاك من المشركين.
- شريحة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8].
- إنصاف حتى من نشنأ. (شنَأ فلانًا: كرِهه وأبغضه بشدة وتجنَّبه وتقزز منه أو من أخلاقه أو طباعه أو تصرفاته أو متبنياته).
- تضمنت وصية الإمام علي (ع) لابنه الحسن بعد الانصراف من صفيم مجموعة من النصائح العامة، وأوّلها هذه الوصية والقاعدة المهمة: (يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ). أي: كن منصفاً
- هذه هي القاعدة المعروفة بالقاعدة الذهبية وبعض تطبيقاتها، وتتلخص في العبارة التي ذكرها الإمام (أحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا).
- وهي تمثّل واحدة من قواعد العلاقات مع الآخرين في الفلسفة الأخلاقية وفي الأديان، وهي من القواعد الأوسع انتشاراً في التعاليم الأخلاقية في العالم والأكثر قِدَماً، ولها حضور في الحضارات القديمة.
- وفي 1993 تم إعلانها في برلمان أديان العالم ضمن إعلان (نحو أخلاق عالمية).
- ما يميّز هذه القاعدة أنها لا تحمل في داخلها أيَّ توجيه لفعل محدد أو ترك محدد، بل تقدِّم معادلة واضحة جداً، معادلة وجدانية سهلة التطبيق، ضع نفسك مكان الآخر في هذا الموقف، ثم انظر ماذا تحب أن يكون تصرّف الآخر معك فيه، وبناء على ذلك تصرّف
تجاهه بالمثل، بغض النظر عن أي تمايز بينك وبينه.
- إذن، كما لا تحب أن تُظلَم لا تظلِم.
- وكما تحب أن يُشهَد لك بالحق، لا تشهد إلا بالحق.
- وكما تحب أن لا تواجَه بالتمييز لأنك مسلم أو شيعي أو عربي أو بسبب لون البشرة أو غير ذلك، فلا تواجِه الآخرين بالتمييز لمثل تلك العناوين.
- وكما تحب من جارك أن يراعي الجيرة فلا يزعجك.. راقب سلوكك وراجع تصرفاتك تجاهه، هل أنت له كما تحب أن يكون هو لك؟
- وعلى هذا نقيس.