خطبة الجمعة 19 ربيع الثاني 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: أين الله مما يجري في غزة؟
تضيع الأولويات، وتصبح الأمور البسيطة عظيمة، وعظائم الأمور من الصغائر.
- في أجواء التوحّش الصهيوني بحقِّ أهل غزة، يتساءل البعض: أين هو الله مِن كلّ ما يجري هناك؟ أين هو الله ممّا يجري للأطفال، والنساء، والشيوخ، والحصار، والتجويع، والرعب، وكل هذه الوحشية التي لم نشهد لها مثيلاً من قبل؟ أين هو الله الرحمن الرحيم العليم القدير العزيز القهّار؟ لماذا لا يتدخّل ويُنهي هذه المعاناة؟
- يبدو أن هذا السؤال يتكرّر -مِن قِبل المؤمنين- في أجواء المعاناة الشديدة، وهو ما قد يرشد إليه قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) [البقرة:214].
- وقد يكون ناشئاً عند البعض نتيجة خلل في فهم كيفية إدارة هذا الوجود من قبل الله.
1- لعل كثيراً من الناس يتصوّرون أن من المفتَرض في مثل هذه الحالات أن يضرب إعصار، أو يَحدث زلزال، أو يُنزل الله بلاءً بالمعتدين، كلّما وقع ظلم بهذا الحجم، تماماً كما أرسل اللهُ طيراً أبابيل على أبرهة الحبشي وجيشة فأهلكهم.
- وهذا خطأ فادح في فهم المسألة المتعلّقة بإدارة الوجود... لله تعالى قوانين ثابتة تحكم هذا الوجود، ومن خلالها تنتظم حركة الوجود في سياق محدّد.
- كسر هذه القوانين لا يتم إلا في حالات نادرة جداً، وضمن معادلات إلهية خاصة.
2- طبيعة الدنيا أنها دار ابتلاء واختبار، اختبار للإيمان، واختبار للصبر، واختبار لمصداقية الإنسان في ما يدّعيه، ولابدّ للاختبار من أن يكتمل... بينما التدخّل الإلهي يعني إنهاء الاختبار، ولربما يعني أيضاً إبطالُه.
- وعندما نقول ابتلاء واختبار فيعني الصعوبات الشديدة والمعاناة إلى المستوى التالي: (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟
- هذا الاختبار قد يطول، وهذه المعاناة قد تشتد، حتى لو كانت الشخصية المرتبطة بالغيب موجودة في قلب هذه المعاناة، وتعاني كما يعاني الآخرون.
- لاحظوا ماذا قال الذين اتّبعوا موسى (ع) بعد قضيته مع السحرة: (قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) فبماذا أجابهم؟ (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].
- لماذا قالوا ذلك، والمفروض أن النصر قد تحقق في موقعة السحرة؟ تجيب الآيات على ذلك، فبعد هزيمة فرعون في تلك الموقعة: (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127].
- إذاً وقع ابتلاء عظيم، وجرائم إنسانية بحقّ المؤمنين، على الرغم من وجود موسى (ع) بينهم، فليس المطلوب من الله تعالى أن يتدخل حينئذ، بل المطلوب من الناس أنفسِهم أن يَثبتوا ويُجاهدوا ويَصبروا، ثم سيحصدون النتيجة: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].
- حتى على عهد النبي (ص)، هل جاء التدخّل الغيبي بنصر المؤمنين نصراً كاسحاً وبلا خسائر في أوّل مواجهة وصراع مع المشركين؟ 13 سنة من المعاناة في مكة، تعذيب وقتل ومطاردة وحصار وتجويع ثم هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، ثم حروب مواجهات عسكرية أحصاها المؤرخ ابن سعد فبلغت 74 مواجهة في غضون 10 سنوات تقريباً إلى أن تبدّلت الأحوال.
- بل حتى فتح مكة في السنة الثامنة لم يكن نهاية المطاف، إذ لم يكد المسلمون يتنفّسون الصعداء حتى بدأت المواجهات في حُنين والطائف في غضون أقل من شهر، ثم مع الرّوم وحلفائهم من العرب بعد أشهر.
- إذاً، في سورة البقرة النازلة في بدايات الهجرة إلى المدينة، عندما يصف الله تعالى هذا الترقّب لنهاية المعاناة وأن تتدخّل يدُ الغيب لتنهيها: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) يأتي الجواب: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، هذا النصر القريب استغرق سنوات إلى أن تحقّق، وكلّف المؤمنين تضحيات جسام، ومعاناة شديدة.
3- من خلال هذه الاختبارات يتكشّف مَن الذي يستحق رضوان الله في الآخرة التي هي الحياة الحقيقية المديدة الخالدة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142].
- وليس بالضرورة أن يكون الجهاد والصبر المذكوران في الآية، مما يخصّ ساحات الحرب دائماً، بل الذين رفضوا الخضوع للمكر الصهيوني بالتهجير، فعوقبوا بالصواريخ والقنابل الرهيبة أن تنزل على رؤوسهم مجاهدون صابرون أيضاً.
4- هذه المعاناة، وهذه التضحيات، وهذا الصبر، وهذا الجهاد سيعود بالخير على أصحابه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
5- مما سبق ندرك أنّ مِن الجدير أن يكون السؤال: أين هم الناس وأين هي الحكومات مِن رفع هذه المعاناة عن أهل غزة، لا أين هو الله؟ ألم يتكالب الغرب للانتصار للكيان الصهيوني وأمدّوه عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ومالياً وبصورة غير مسبوقة؟ رؤساء الدول الكبار تهافتوا على الكيان الصهيوني وأعطوه الضوء الأخضر ليفعل ما يشاء، ولينفّس عن كل أحقاده، وليدمّر غزة على رؤوس أهلها العُزَّل، فماذا فعل العرب والمسلمون في المقابل؟ كلٌّ يُغنّي على ليلاه؟ هذا إنْ لم يكن في البين ما هو أسوأ من ذلك.
- إنّ ما يقعُ على أهلِ غزةَ أمرٌ يفوقُ الوصفَ في بشاعتِه وإجرامِه ووحشيّتِه، ولكنْ في البين حقيقةٌ وجودية يجب أن نفهمها، وأن نوعّيَ الأجيالَ عليها، وهي أنّ مِن الخلل المفاهيميّ توقُّع التدخّلَ الغيبيَّ الإعجازيَّ لوقفِ كلِّ ذلك العدوان، وتلك الهمجيةِ الصهيونية، وذلك التكالبِ والمددِ الغربيّ، على طريقة قصةِ أصحاب الفيل، حتى إذا لم يتحقّق ذلك، بدأت الوساوسُ تدورُ في أذهانِ البعضِ وعلى ألسنتِهم: أين هو الله مِن كلِّ هذا الظلم، وهذا الإجرام، وهذه المعاناةِ التي لا تتوقّف؟ ولقد شهِدنا في أزماتٍ عصفَت بمجتمعاتِنا في السنواتِ القليلةِ الماضيةِ -وما أكثرَها- كيف تصيّد الملحدونَ والمنحرفونَ شبابَنا بمثلِ هذه الإشكالات، فقادوا بعضَهم إلى الإلحاد، وبعضَهم إلى التمرّدِ على الدين، أو إلى الشكِّ على أقل تقدير. لقد عانى المسلمون لثلاثٍ وعشرين سنة، ورسولُ الله (ص) بين ظهرانيهم، وجبريلُ (ع) ينزلُ عليه بالوحي، ثم جاء النصرُ في نهايةِ المطافِ مِن رحِمِ هذه المعاناة، لأنّ المعادلة الإلهية هي: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157]. وبإذن الله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).