خطبة الجمعة 19 ربيع الثاني 1445- الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: ضياعه البوصلة

- في جانب من سورة الأنعام، حديث عن نعم الله تعالى على الإنسان من الأنعام والمحاصيل الزراعية، واستنكار ووعيد لمن ينسب إلى الله سبحانه تشريعات من دون امتلاك دليلٍ ولا حُجّة، ومعتبرةً أنّ ذلك يمثّل اتّباعاً لخطوات الشيطان: (وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ، وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [138-139].
- وبعد استعراض مجموعةٍ من الأمثلة والمصاديق الخاصة بذلك، يقول تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)... فما هي العناوين المحرّمة المذكورة في هذه الآية وما يليها؟
1. على مستوى الإيمان: (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا).
2. على المستوى الاجتماعي في الدائرة الأقرب: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).
3. على المستوى الاجتماعي في الدائرة الأكبر: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
4. على المستوى الاقتصادي وحركة المال: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا).
5. على المستوى القضائي وفك النزاعات: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
6. على مستوى المعاملات عموماً: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ).
- الملاحظ في الموارد السابقة أنها لا تستثني الضعيف... ومصداقه اليتيم. فكما أنه يحرم على الإنسان أن يأكل مال القوي الذي قد يخاف منه، يحرم عليه كذلك أن يأكل مال الضعيف كاليتيم الصغير الذي لا سند له، ولا يملك أن يصدّ العدوان على أمواله.
- كما أن الملاحظ أنها لا تستثني الأقرباء، فكما أنه على الإنسان أن يكون شاهدَ حق إن كان الخصمُ غريباً، كذلك عليه أن يكون شاهد حق إن كان الخصم من أقرب الناس إليه.
- ولم تُخصِّص الآية هذه المحرَّمات في التعامل مَع مَن يشترك معنا في الدين، بل خطابُها خطابٌ عامّ للتعامل مع كل الناس، مع استثناء المحارب ومن يستحق الإعدام، فإن قتل الأول ممكن في أجواء الصراع، وقتل الثاني ممكن ضمن عملية القصاص وما شابه.
- وهناك رسالة ضمنية في هذه الآيات، وكأنها تقول: لقد خاض المشركون بقوة في تحريم بعض العناوين الهامشية، وركّزوا على ذلك، وأثاروا الأجواء، وتشدّدوا فيها، من دون دليل ولا حجّة، وهي أساساً مفتراة عليه.
- وفي المقابل، نجدهم يتجاوزون على مجموعة من العناوين التي حرّمها الله فعلاً دون أن يبالوا لذلك: الشرك – عقوق الوالدين – قتل النفس المحرّمة – ارتكاب الفواحش – أكل مال الناس بالباطل – شهادة الزور – الإخلال بالعدالة والمساواة أمام القانون– نقض العهود، وهي عناوين تشمل أبعاداً إيمانية واجتماعية وغيرها من مجالات الحياة.
- وهذه قد تكون أحياناً مشكلتُنا في التعامل مع المسائل الشرعية، تركيز واحتياط إلى حدّ الوسوسة في مسائل ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن عندما تصل الأمور إلى الشهادة في حقوق الناس -مثلاً- نجد نفس هذا الشخص الذي يعتبر أن احتياطه ووسوسته من الدين، لا يبالي ولا يرف له جفن إن شهد شهادة زور لصالح أخيه أو ابن عمه!
- وهكذا عندما تصل الأمور إلى ما له علاقة بالمال، إذ يغيب الدين، ويغيب الشرع، ويَنسى الله تعالى، ويَنسى الآخرة، ويُبيحُ لنفسه ما حرّمَ الله، خاصةً إذا كان الطرف المقابل ضعيفاً لا حول له ولا قوة.
- إن هذا التناقض السلوكي عند الإنسان الذي يعتبر نفسه ملتزماً بالشرع علامة على وقوعه في حبائل الشيطان باسم الدين، ومن خلال الفهم المغلوط والتطبيق الأعوج للتديّن، وما أكثر المفاهيم الخاطئة والتطبيقات المعوجّة في إطار الحالة الإيمانية عندما تضيع الأولويات، وتصبح الأمور البسيطة عظيمة، وعظائم الأمور من الصغائر.