خطبة سماحة الشيخ علي حسن غلوم حول الإمام علي عليه السلام


من أهم ما يميز الفترة التي حكم فيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام هو نهوضه بمشروع الإصلاح عقب مبايعته مباشرة، وعلى عدة جبهات، ولم تكن عملية سهلة، فلقد برزت العقبات العديدة وسعى الإمام والمخلصون من أصحابه جاهدين لتذليل تلك الصعوبات، بل واضطر الإمام لخوض حروب متتالية في فترات متتابعة، كلّفته الكثير، إلا أنه أصر على المضيّ، لقداسة الهدف الذي خطط للوصول إليه. وإن لم يكن الإمام قد نجح في تحقيق الصورة الكاملة لعملية الإصلاح بسبب قصر مدة حكمه وتتالي الحروب وتجدد التحديات، إلا أنه قدّم نموذجاً عملياً لما ينبغي أن تكون عليه أية حكومة إصلاحية تواجه فساداً قد نخر إلى العظم، وأتى على كل مقوّمات النهوض والتقدم في الدولة.
وفيما يلي أهم العناوين الإصلاحية التي أخذ الإمام علي عليه السلام على عاتقه تحقيقها:
1ـ الإصلاح السياسي:
كان لبعض الولاة على عهد الخليفة عثمان بن عفان دور أساسي في ما وصلت إليه الأمور من فتن جرّت في نهاية المطاف إلى مقتله، إذ اعتبروا أن ما تحت أيديهم من سلطان ملكٌ خالص لهم يتصرفون فيه كيفما شاؤوا، وأن الرعية بمثابة العبيد عندهم، يسوسونهم بمزاجية الحاكم المستكبر (وبتعبير أحدهم: إنما السواد ـ جنوب العراق ـ بستان لأغيلمة قريش!!)، وهو ما مثّل انقلاباً على مفهوم الحكم وفق سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتابَعَه على ذلك الخليفتان أبوبكر وعمر، إذ كان الحاكم في موقع الخدمة للأمة لا الاستعلاء والاستغلال. ولم يكتف أولئك الولاة وأتباعهم من الإداريين بذلك، فقد اتخذوا سياسات تعسفية تجاه الرعية، وبدأت بعض مظاهر الفساد الأخلاقي والجهر بالمعاصي تتفشى علناً في المجتمعات الإسلامية، مما أثار حفيظة الغيارى من الصحابة والتابعين، ودفعتهم للتصدي لبعض تلك المظاهر.
ولذا جاءت قرارات عزل الولاة في مقدمة القرارات الإصلاحية الحاسمة التي اتخذها الإمام، ولم يسمح لنفسه ولا للآخرين أن يداهنوا في هذا الأمر، انطلاقاً من إيمانه بأصل مبدأ الإصلاح واجتثاث الفساد من جذوره، ومراعاةً للشعور الشعبي العام وتوافقاً مع النقمة العارمة التي احتقنت في صدور الناس حين ذاقوا الأمرّين من جراء السياسات الهوجاء التي سار بها أولئك الولاة. وقد روى الطبري في تاريخه أن المغيرة بن شعبة دخل على الإمام علي عليه السلام فقال له: (إني لك ناصح، وإني أشير عليك بردِّ عمال عثمان عامك هذا، فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلتَ من أحببت وأقررتَ من أحببت. فقال الإمام : والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيّ في أمري).
2ـ الإصلاح المالي:
فقد حصل بعض الأفراد على امتيازات مالية هائلة وسُخّرت لهم إقطاعات ضخمة، في مخالفة صريحة للسياسة النبوية في العطاء من مداخيل بيت المال مما كان يوزّع بين المسلمين على سبيل المساواة، وظهرت في المقابل طبقة فقيرة تئن من ضغوطات الحياة الاقتصادية في الوقت الذي كانت فيه الفتوحات الإسلامية قد فتحت أبواب النعيم على الأمة.
روى ابن أبي الحديد المعتزلي عن ابن عباس قال: (إن علياً خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فإن الحق القديم لا يبطله شئ، ولو وجدته قد تُزوِّج به النساء، وفُرِّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق).
وروى أيضاً أنه عندما عوتب الإمام على التسوية في العطاء، قال عليه السلام: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلّيت عليه؟ والله لا أطور به ما سَمَر سمير، وما أمَّ نجم في السماء نجماً. ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟!).
3ـ الإصلاح الديني والثقافي والإعلامي:
كان لاتساع رقعة دولة الإسلام، ودخول شعوب عديدة تحت سيطرة الحكم الإسلامي حاملةً خلفياتها الدينية والثقافية والسلوكية، وانشغال كثير من الرعيل الأول من المسلمين بالفتوحات، وفساد بعض الولاة أثرٌ سلبي على صعيد الحفاظ على المضمون الإسلامي للمجتمعات الإسلامية، فبرزت على أثر ذلك مظاهر طالما حاربها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من قبيل شرب الخمر والغناء وشعر المجون وانتشار القصّاصين رواة الأساطير والأحاديث الكاذبة. وقد اتخذ الإمام علي عليه السلام اجراءات في هذا الصدد، ولعل أهم عناوين الإصلاح في هذا الإطار ما جاء في خطاب مبكّر صادر عنه بُعيد تسلمه مقاليد الحكم حيث قال: (إن الله تعالى سبحانه أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصرفوا عن سمت الشر تقصدوا. الفرائض الفرائض، أدّوها إلى الله تودكم إلى الجنة. إن الله حرّم حراماً غير مجهول، وأحل حلالاً غير مدخول، وفضّل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب... اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه).
ومن الإجراءات التي اتخذها على هذا الصعيد ما رواه ابن أبي الحديد من أن علياً كان يأمر بمحاربة شعراء أهل الشام الذين يروّجون شعر الأدْيـِرة، وروى أن كعب بن جعيل عندما شرب الخمر وأقام علي بن أبي طالب عليه الحد، غضب ولحق بمعاوية وهجا علياً. كما حرق مركز صناعة الخمور وذلك فيما رواه ربيعة بن زكار قال: (نظر علي بن أبي طالب إلى قرية فقال: ما هذه القرية ؟ قالوا: قرية تُدعى زرارة، يُلحَّن فيها ويُباع فيها الخمر... فأتاها بالنيران وقال: اضرموها، فإن الخبيث يأكل بعضه بعضاً.. فاحترقت).
معالم الإصلاح العَلَوي:
1ـ عدم المداهنة ورفض أية محسوبية في العملية الإصلاحية حتى مع أقرب الناس إليه، وقضية أخيه عقيل مشهورة حيث جاءه وقد كبر سنه وفقد بصره وكثر عياله فطالب بزيادة من بيت المال، فقرّب الإمام إلى يده حديدة محماة أوجعته، فقال له: (أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نارٍ سجّرها جبّارها لغضبه؟!).
2ـ تعيين المراقبين العامّين، فقد تعددت ـ في مصادر التاريخ ـ رسائل الإمام عليه السلام التي كان يبعثها إلى ولاته ويذكر فيها أنه أحيط علماً بسلوك غير مرضيٍّ عنه قد سلكه الوالي أو أحد موظفيه، وهو ما يعكس حقيقة أنه كان قد عيّن مراقبين مأمونين يقدّمون له التقارير المستمرة حول الأداء الوظيفي للولاة ومن يتبعهم، ففي نهج البلاغة أنه كتب إلى أحد ولاته: (أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك. بلغني أنك جرّدت الأرض، وأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك. فارفع إليّ حسابَك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس. والسلام).
3ـ اجتثاث الفساد من جذوره، فأنصاف الحلول لم تكن لتُصلح الأوضاع، ولذا كان يصرّ على عزل بعض الولاة وإجراء القوانين بحذافيرها وإن أغضبت أقواماً وألّبت عليه آخرين.
4ـ عدم التساهل في إنزال العقوبة بمن يستغل منصبه لأهدافه الشخصية، ولذا وجّه كتاباً إلى زياد بن أبيه وكان نائباً لابن عباس على البصرة قال فيه: (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فئ المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدّنّ عليك شَدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام) نهج البلاغة.
5ـ تقديم أسس العمل الإدراي والسياسي لموظفيه، وقد حفظ لنا التاريخ مجموعة من النصوص المدوّنة بعضها يخص الولاة، وبعضها يخص جباة الصدقات، وبعضها أمراء الجيوش والأجناد. وأوسع وثيقة في هذا الصدد كتابه إلى واليه على مصر مالك الأشتر، وقد استعرضنا هذه الوثيقة ووثائق أخرى في صفحتنا هذه (منتقى الجمان).
6ـ فتح باب الحرية السياسية المسئولة، بحيث يحق لكل أحد أن يعبر عن رأيه وموقفه السياسي مادام كان منطلقه المصلحة العامة، وأن يناقش الإمام عليه السلام في قراراته، كما لم يحارب أحداً لمجرد كونه معارضاً، بل إنه أعطى معارضيه الحرية في أن يسألوا وأن يعارضوا، ولكن عندما كانوا يسيئون إلى النظام ويعتدون على الأبرياء فإنه كان يتدخّل. وقد روي أنّ بعض الخوارج كان جالساً في مجلس علي عليه السلام وهو يتحدّث، فقال الخارجي: (قاتله الله كافراً ما أفقهه)، فوثب القوم ليقتلوه، فقال لهم الإمام: (رويداً، إنما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب).
إن ما سبق يمثل عرضاً سريعاً لمنهج ومعالم الإصلاح في سيرة أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، وحريٌّ بالمهتمين أن يطّلعوا على تفاصيل البحث والنصوص من خلال الدراسات التي كتبها جمع من الباحثين والمختصين.