تبرّؤوا !! مقال للشيخ علي حسن

نادى البعض في أجواء الفتنة الأخيرة بضرورة تبرؤ الشيعة من جملة من كتبهم ومن ثم منع تداولها في الكويت، بينما نادى آخرون بضرورة العمل على مسح وحذف الأحاديث (المغضوب عليها) من كتب الشيعة. ولي في ذلك تعليقات.
معضلة الوضع:
لا تختلف المذاهب الإسلامية قاطبة على أن آلاف الأحاديث الموضوعة على لسان النبي وآله وصحبه وأمهات المؤمنين وغيرهم من التابعين وتابعي التابعين قد انتشرت في كتب التفسير والحديث والعقيدة والتاريخ والأخلاق وغيرها، كما رويت أضعافها من الأحاديث الموضوعة والمحرّفة، ولكنها أهملت ولم تدوَّن في الكتب. وقد نُقل عن البخاري صاحب الصحيح قوله: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح).
وعن علامة الحديث في البصرة حماد بن زيد: (وضعَت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إثني عشر ألف حديث). وروي أنه جئ بزنديق إلى هارون الرشيد فأمر بقتله فقال: (يا أمير المؤمنين، أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم، أحرّم فيها الحلال وأحل فيها الحرام؟!)، ومن قبله قال المهدي العباسي: (أقر رجل عندي من الزنادقة أنه وضع أربعمائة حديث فهي تجول في أيدي الناس).
ومن هنا تأسس عند المسلمين علم الحديث دراية ورواية وعلم الرجال، وألِّفت كتب خاصة بالأحاديث الموضوعة ككتاب الموضوعات لابن الجوزي وآخر للذهبي وثالث للصغاني (ت650 هـ) الذي قال في مقدمة كتابه: (وقد كثرت في زماننا الأحاديث الموضوعة، يرويها القصاص على رؤوس المنابر والمجالس، ويذكرها الفقراء والفقهاء في الخوانق والمدارس، وتدووِلت في المحافل، واشتهرت في القبائل، لقلة معرفة الناس بعلم السنن وانحرافهم عن السنن... وهذه الأحاديث وضعت على رسول الله وافتريت عليه، أوردها كثير ممن ينسب إلى الحديث في مصنفاتهم ولم ينبهوا عليها، فروى الخلف عن السلف، وبسبب وقع الدين في التلف، ثقةً بنقلهم واعتماداً على قولهم، فضلّوا وأضلّوا... وقد قصد إلى جمع الموضوعات جماعة من العلماء المعتبرين كابن حبان والحاكم النيسابوري وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم).
التحقيق لا العبث:
وانتشار هذا الكم من الحديث الموضوع والمحرّف لا يعطي لأحد الحق بالعبث في كتب التراث التي حفظها وتعاهدها المسلمون على اختلاف مذاهبهم طوال القرون الماضية، إذ يعدّ هذا العبث ـ بدوره ـ نوعاً من التلاعب والتحريف والخيانة للأمانة العلمية.
نعم، مع الإقرار بأهمية مواصلة البحث والتحقيق العلميين في هذه الكتب، وفي علمي الحديث والرجال عموماً، فإن الأسلوب العلمي المفترض أن يُتبع من قبل أهل الاختصاص فقط هو أن توكل إليهم مهام التحقيق أو التلخيص أو تقديم مصنفات جديدة في هذين المجالين ضمن عملية الاجتهاد العلمي، والتي لا يختلف عليها أحد. على أن تلتزم بالتجرّد عن أية خلفيات طائفية أو فئوية أو الوقوع تحت تأثير العاطفة.
إبراهيم والثلاث كذبات:
ومن الضروري الانتباه إلى أن العبث بكتب الشيعة مسحاً لبعض مضامينها، أو منعاً لتداولها لن يؤدي سوى إلى الاستمرار في الشحن الطائفي، والتقدم بمطالبات مشابهة عبر القنوات القانونية والقضائية وبنفس الذرائع التي يقدّمها أصحاب تلك المطالبات كالإساءة للأنبياء والصحابة والمس بالعقيدة والطعن في المقدسات وأمثالها.
ولنأخذ الرواية التالية التي يرويها الإمام البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن، تفسير سورة بني إسرائيل برقم 4435: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول الموقف يوم القيامة ولجوء الناس إلى الأنبياء طلباً للشفاعة: (.... فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ ـ فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِي الْحَدِيثِ ـ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي). فهذا الحديث على سبيل المثال يطعن في عصمة نبي الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وآلهما الصلاة والسلام متهماً إياه بتكرار الكذب وعدم اليقين بمصيره وهو في عرصات موقف يوم القيامة حيث تتجلى الأمور بكل وضوح، ومن جهة أخرى يطعن في سلوك النبي إبراهيم حيث أن إحدى هذه الكذبات رواها الإمام مسلم في صحيحه كالتالي: (عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ... وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإنى لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها. فأتى بها فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله أن يطلق يدي ولا أضرك. ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك. ففعلت، وأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرِجها من أرضى وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال لها: مهيم؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر وأخدم خادماً. قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بنى ماء السماء).
رأي الفخر الرازي:
وقد علّق فخر الدين محمد بن عمر التيمي الرازي الشافعي ـ وكان إذا ركب يمشى حوله ثلاث مائة تلميذ من الفقهاء ولقب بشيخ الإسلام ـ على هذا الحديث في تفسيره الكبير فقال: (واعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، فقلت: الأولى أن لا يقبل مثل هذه الاخبار، فقال على طريق الاستنكار: إن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة، فقلت له: يا مسكين إن قلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام، وان أردناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب).
فمثل هذه الرواية لا يرتضيها الشيعة وطائفة من أهل السنة ـ كالرازي ـ ويعتبرونها طعناً في عقيدة النبوة، فهل يرتضي المطالبون بالعبث بكتب التراث الشيعية ومنعها أن يعمد الشيعة ـ بدورهم ـ إلى المطالبة بذات الأمر وبنفس الأسلوب فيما يخص كتب أهل السنة؟ لاشك أن أمثال هذه المطالبات لن تجلب سوى المزيد من التأجيج والإثارة، وتقدّم الذرائع لمحبي الفتن للعمل على إشعال نيرانها من جديد.
نعم لا خلاف على أن من حق علماء كل طائفة أن يثيروا ـ علمياً ـ قضايا يعتبرونها من المسيئات إلى طائفتهم، ولا مانع من العمل العلمي تحقيقاً وتمحيصاً، وهو ما يختلف تماماً عن المطالبات التي أطلقت.