الفقيه الإنسان

أقيم في 28 سبتمبر في محافظة القطيف شرق المملكة العربية السعودية حفل تأبيني كبير للمرجع الراحل سماحة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله، وشارك في الحفل العشرات من رجال الدين من القطيف والأحساء والمدينة المنورة بالإضافة إلى مشاركة علمائية من الكويت والبحرين، وحشد كبير من أبناء المنطقة. وقد استمر الحفل لأكثر من ثلاث ساعات وكان الحضور نخبوياً بامتياز.
فقرات عديدة:
بداية الحفل كانت بكلمة المنظمين ألقاها الأستاذ عبدالله بن محمد آل داوود، تبعه عرض لكلمة وجدانية مسجلة بالفيديو للسيد جعفر فضل الله نجل المرجع الراحل وأعقبه آية الله الشيخ محمد علي التسخيري من إيران بكلمة ألقاها بالنيابة عنه سماحة الشيخ حسين المصطفى، ثم كلمة للمحقق الشيخ حسين الراضي من الأحساء، وأخرى لسماحة الشيخ كاظم العمري من المدينة المنورة، وكلمة أخيرة لسماحة الشيخ محمد حسن الحبيب. كما تم عرض كلمات مسجلة بالفيديو لسماحة الشيخ حسن الصفار، والسيد صالح الحيدري رئيس الوقف الجعفري في العراق، والدكتور محمود المظفر من العراق. أما قصيدة شاعر المملكة والأحساء الأستاذ جاسم الصحيح فقد ألهبت مشاعر الحضور، كما أجاد الشاعر حبيب المعاتيق حين تناول سيرة المرجع الراحل ومزاياه على مدى مراحل حياته الكبيرة. واختتم الحفل التأبيني بمدائح ألقاها الرادود جعفر الدرازي من البحرين. كما كانت لي كلمة بهذه المناسبة كانت كالتالي.
القرآن والحركيون:
القرآن لا يفهمه إلا الحركيون.. بهذه الكلمات لخّص المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله ؤيته التي كوّنها في عمر يقارب متوسط عمر الإنسان، ولكن بعطاء فاق عطاء أمة مجتمعة.. لخص رؤيته حول فهم القرآن وتفسيره، وحول حركة القرآن في حياة الإنسان المسلم.
منطلق الفكرة قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) الفرقان:32، إذ كانت الآيات تنزل في أجواء حركة الدعوة الإسلامية فتراقب نقاط ضعفها وقوّتها والتحديات التي تواجهها، وتهيئ الأجواء لمواجهة التحديات المفروضة على الإسلام والمسلمين، وتقود المسلمين في حربهم وسلمهم، في انكساراتهم وانتصاراتهم، وكانت تلاحق خطوات النبي والمؤمنين معه لتثبتهم في مواقع الاهتزاز وتمنحهم القوة والثبات والاستقامة.
ومن هنا اعتبر المرجع الراحل أن الاقتصار على الفهم التجريدي أو اللغوي أو النظري للقرآن يجرّده من مضمونه الحقيقي الذي يهدف إلى تغيير الواقع.. بل إنه يقولها صراحة: (المجتمع المسترخي لا يستطيع أن يفهم القرآن بل ربما يعمل على تجميده).
ولذا حرص على أن يقدم تفسير القرآن للناس بصورة مختلفة عما يقدمه سائر المفسرون، ولكلٍّ فضله، فلم يكن همه الاستغراق في بيان معنى الآيات، والغوص في أقوال المفسرين فيها عرضاً وتحليلاً، ونقداً وتفنيداً، بل جعل تفسيره (من وحي القرآن) كتاباً فياضاً بالمفاهيم القرآنية التي تجعل حياة المسلم تتحرك في إطار ما يواجهه من قضايا ومشاكل وأوضاع جديدة على المستوى العقيدي والفكري والروحي والحركي والأخلاقي والسياسي والتربوي والاجتماعي، وذلك من خلال استيحاء المعاني القرآنية في الجانب الأعمق والأوسع للفكرة.
واعتبر أن الذي يبرر هذا المنهج عدة أمور منها:
1. لآيات القرآن القابلية أن تشع فكراً متجدداً ما دامت للحياة مسيرة. وهذا ما أكده الحديث المروي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: (إن القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في أقوام ماتوا وماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين). فالآية لا تتجمد عند مناسبة النزول، بل المناسبة هي النموذج في الفكرة من خلال النموذج الحي في عصر النزول، والمطلوب أن تتحرك الفكرة من خلال الواقع المعاصر الذي يقتحم على الناس حياتهم.
2. واقع الكفر والانحراف اليوم لا يختلف عن الواقع بالأمس من حيث طبيعة النماذج العامة، فحينما يقسم القرآن الناس في سورة البقرة إلى ثلاثة أصناف: متقين وكافرين ومنافقين فإنه لا يتحدث عن مرحلة مضت، بل عن نماذج عامة في كل زمان.
3. الآيات قد تتحرك في نطاق مضمون فكري معين من خلال ظاهرها ولكنها توحي بمعان أعمق، عُـبّر عن أداته بالتأويل، وعن عمقه بالبطن. ففي الكافي عن فضيل بن يسار قال: سألت أباجعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) قال: مِن حرق أو غرق. قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذلك تأويلها الأعظم) أي المفهوم الأعمق في ما تتسع له الآية من إيحاء مفهومي وعملي. فالتأويل ليس مجرد حمل اللفظ على خلاف معناه الظاهر، بل استيحاء المعاني المماثلة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في حياته.
لقد كان من جملة وصايا السيد المرجع الراحل قدس سره فيما بثه في كلماته وكتاباته أن نعيش روحيّةَ القرآن كما عاشها في كلّ حياته وحركته، فعَشِقَ القرآنَ بقلبه وعقله وروحه... ولقد خاطبنا على الدوام، بأنّ علينا أن نتربّى بالقرآن، وفي ضوء هذا المنهج القويم، لتكون مفاهيمُه مفاهيمَنا، وحركتُه حركتَنا في الحياة.