بين التقديس والتقدير ـ الشيخ علي حسن

بين الدين و المقدس ترابط حتمي، فدائماً نجد الدين ممزوجاً ببعض المقدسات، فما هو مفهوم المقدس؟ وما الفرق بين المقدس والمحترم؟ وهل كل مقدس عند الناس هو مقدس على نحو الحقيقة؟
مفهوم المقدس:
في الأغلب يقصد من المقدس ما كان متعالياً عن النقد مما هو قطعي الوجود، حتى لو لم ندرك فلسفة الأمر وحقيقته. فالذات الإلهية مقدسة وإن كنا لا ندرك كنهها وحقيقتها، والله سبحانه غيب بالنسبة إلينا، إلا أن الدليل القطعي قائم بوجوده. والقرآن الكريم كتاب مقدس وهو فوق النقد، ولابد من التسليم التام له وإن لم ندرك مداليل آياته المتشابهة، أو تعارض بعض ما فيه مع شئ من رؤانا. ويبدو أن التقديس فرع العصمة والتنزه عن الباطل.
وعلى كل تقدير فإن وجود المقدس كالقرآن ـ مثلاً ـ نعمة، لأنه يجعلنا نشعر بالطمأنينة والثقة حين نأخذ منه المفاهيم والمعارف والتشريعات وحِكم الحياة وأخبار الماضين وإنباءات المستقبل وغير ذلك.
تقديس واستفهام:
هذا لا يعني ـ بالطبع ـ عدم الاستفهام والسؤال والبحث والدراسة، فهذا حق مشروع ضمن الإطار العلمي، بل هو ضرورة وأمر مندوب إليه في كثير من المواقع، ولكن لابد في نهاية المطاف من التسليم وإن لم يمكن وفق حدود قدراتنا المعرفية أن نصل إلى الإجابة. فالذات الإلهية مقدسة ومع هذا تدور حول صفاته وذاته بحوث ودراسات، وتغيب عنا الكثير من الحقائق حوله سبحانه.
الفرق بن المقدس والمحترم:
الاحترام والتقدير لا يتعارضان مع النقد، فكتاب نهج البلاغة محترم وموضع تقدير وإجلال، ولكنه ليس فوق النقد. نعم لو ثبت أن كل نهج البلاغة هو كلام أمير المؤمنين حتماً ويقيناً لتغيّر الحال، ولكن الواقع أن الكلام منسوب إليه وفيه ما صدر عنه، وفيه ما لم يصدر وهو محل نقاش وترديد. على خلاف القرآن الكريم الذي نعتبره مقدساً وفوق النقد لأننا على يقين أنه منزه عن الباطل وأنه من الجلد إلى الجلد تنزيل من رب العالمين.
وهكذا فإن عالم الدين محترم وموضع تقدير وإجلال، ولكنه ليس فوق النقد، لأنه ليس بمعصوم، بينما النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدس وفوق النقد، لأنه منزه عن الباطل ومعصوم، وإن كانت دائرة عصمته تختلف عند المذاهب الإسلامية بين من يعتبره معصوماً في كل شئ، حتى في ما يخص حياته اليومية وتعاملته العادية، وين من يضيق هذه الدائرة بدرجات مختلفة. وعلى أساس ذلك سيكون تقديسه متفاوتاً بينها وفق تلك الرؤية.
ومن هنا يجب أن نكون دقيقين فيما ندخله في دائرة المقدسات، وكذلك فيما نخرجه منها.
إلغاء المقدسات:
البعض من الحداثويين يدعون إلى نقد القرآن الكريم، فلا مقدس عندهم إلا الله سبحانه، وأما القرآن ـ فبزعمهم ـ لايعدو أن يكون مصاغاً ضمن الإطار الزمني لنزوله، ولذا فهو يحمل جملة من المفاهيم والتشريعات الناقصة والخاطئة المتناسبة مع حقبة زمنية ولّت.. والفعل البشري فيه متحقق، تأليفاً وجمعاً وحفظاً. ولا يمكن أن نوافقهم على ذلك، وهو خطأ فادح، ومخالف لضرورات معتقد المسلمين.
توسعة دائرة المقدسات:
وفي المقابل هناك من يدخل الكثير من الأمور والشخصيات المحترمة ضمن دائرة المقدسات، وهذا خطأ آخر. وقد لا يقع التصريح بالتقديس أحياناً لشخص أو أمرٍ ما، بينما يكون من الناحية العملية مقدّساً، حين نعتبره فوق النقد، ونمنع الناس من نقده. فكتاب صحيح البخاري عند إخواننا أهل السنة يعتبر كتاباً مقدساً لأنه فوق النقد، بل يصرح البعض بأن نقده يؤدي إلى هدم الدين، وهذا تقديس عملي وإن لم يُصرَّح بقداسة هذا الكتاب الذي يعد جهداً بشرياً وفق رؤية معينة لعالم أراد أن يجمع ما صح عنده من أحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يكون فيها الموضوع والضعيف. وقد وقع الحداثويون في ذات الخطأ وإن كانوا يرفضون مبدأ التقديس من أساسه، فقد جعلوا لشخصياتهم ومفكريهم وآرائهم قدسية عملية حتى أنهم يلاقون الرأي الآخر بالاستهزاء والاتهام بالتخلف ومعاداة الإنسانية والعقل والوعي.
إثقال كاهل الدين:
توسعة دائرة المقدسات بصورتيها التصريحية والعملية تثقل كاهل الدين والمتدينين، لأنها اجتهادات قد تخطئ، وقد تكون مخالفة للدين، وقد تكون مخالفة لليقين العلمي، وقد تكون مناسبة لزمن دون آخر، أو لمجتمع دون آخر، ولكن صفة القداسة ـ حينئذ ـ ستمنع من نقدها أو مخالفتها. فنحن نقر أن مسألة التطبير ـ على سبيل المثال ـ أحدثت خلافاً بين الفقهاء من حيث الفتوى بإباحتها أو تحريمها، ولكلِّ فقيه رؤيته الخاصة واجتهاده وخلفياته المؤثرة في الحكم، ولكن المشكلة أن البعض أضفى صفة القداسة على الموضوع بحيث أصبح مجرد الحديث عن المسألة أو نقدها تهمة كبيرة. وهكذا الأمر في كثير من الممارسات التي يأتي بها المتدينون ـ على اختلاف مذاهبهم وتشعباتهم ـ وفي التفاصيل التاريخية لأحداث العصر الإسلامي والمسائل الفقهية.. إلخ القائمة.
الحساسية من نقد الغرب:
وبنظرة أشمل فإن مِن المسلمين اليوم مَن أصبح حساساً من نقد الغربيين لنا كمسلمين.. نعم لا ننكر أن هناك من يحقد على الإسلام والمسلمين، إلا أن هذا لا يعني أن الجميع هكذا، أو أن نقابل أي نقد بهذه الحساسية، وإلا فإننا سنضفي على كل فهمنا البشري للدين وتصرفاتنا مهما كانت خاطئة، وتخلّفنا في مجالات كثيرة، صفة القدسية وحرمة الانتقاد. فلنستمع إلى ما يقولون بعقول واعية فلعل في كلمتهم حقاً، وإلا غدونا كما قال تعالى في حق قوم النبي نوح عليه السلام: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) نوح: ٧.