المفهوم الإسلامي للجمال - السيد علي فضل الله

{اللّهُ الّذِي جعل لكُمُ الأرْض قراراً والسّماء بِناء وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ ورزقكُم مِّن الطّيِّباتِ ذلِكُمُ اللّهُ ربُّكُمْ فتبارك اللّهُ ربُّ الْعالمِين} (غافر: 64). للجمال قيمة لا يختلف النّاس حولها.. فهو يرضي روح الإنسان ويملأ كيانه، وينعش حياته، ان في الشّكل الخارجي في تناسق الأبعاد أو انسجام الألوان أو تناغم الأصوات، أو في البعد الداخلي، من خلال جمال العقل وجمال الروح وجمال الأخلاق وجمال القلب، وجمال الإيمان والسلوك.
فالجمال يُعبّر عنه في كل ما يصدر عنا أو من حولنا، فلكل شيء صورته الجميلة أو عكسها، فالهيئة، والكلام، والموقف، واللغة… كلها إما ان يرتفع بها الجمال فتسمو وترقى، أو تنحطّ مع القبح والبشاعة.
وللجمال موقعه الكبير لكونه يشير الى صفةٍ من صفات الله عز وجل، واسم من أسمائه الحسنى، فالله جميل في ذاته، فهو {نور السّماوات والأرض} (النور: 35)، وجميل في أسمائه، فله من الأسماء أحسنها وأكملها، وله من الصّفات أجملها: {ولِلّهِ الأسماء الْحُسْنى فادْعُوهُ بِها} (الأعراف: 180).
والله جميل في كلامه، فالقرآن كتابه، هو سيد الكتب رحمة وعذوبة وجمالاً، كل آياته تنتهي بلحن جمالي فيه تناسق التعابير، حتى تخاله شعراً وما هو بشعر، وهو فوق كل نثر. والملفت ان هذا الجمال هو مرافق لكل آيات القرآن، فنلمس الجمال في الآيات التّرغيبية: {ويُطافُ عليْهِمْ بِآنِيةٍ مِنْ فِضّةٍ وأكْوابٍ كانتْ قوارِير، قوارِير مِنْ فِضّةٍ قدّرُوها تقْدِيراً، ويُسْقوْن فِيها كأْساً كان مِزاجُها زنْجبِيلاً، عيْناً فِيها تُسمّى سلْسبِيلاً} (الإنسان: 15 - 18).
وكذلك نلمس الجمال في الآيات التّرهيبية: {ما أغْنى عنِّي مالِيهْ، هلك عنِّي سُلْطانِيه، خُذُوهُ فغُلُّوه، ثُمّ الْجحِيم صلُّوهُ، ثُمّ فِي سِلْسِلةٍ ذرْعُها سبْعُون ذِراعًا فاسْلُكُوهُ} (الحاقة: 28 - 32). كما نلمس الجمال في آيات الحرب كما نلمسه في آيات السّلم، وفي الآيات الّتي تتحدث عن حالات التوتّر أو حالات الهدوء.

الجمال صورة الإنسان

والجمال أيضاً صورتنا… هو صورة الإنسان عندما خلقه الله: {خلق السّمواتِ والأرْض بِالْحقِّ وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ واليْهِ الْمصِيرُ} (التّغابن: 3). أما في الكون، فالأمر لا يستدعي أن نبحث كثيراً وبعيداً، ففي الطبيعة القريبة منا، ندرك الجمال بأبهى صوره وأروعها: تناسب في الأشكال، وانسجام في الألوان..

الإسلام يدعو إلى التجمل

وأكثر الإسلام من الدعوة الى التّجمل، واستبق ما قد تؤول اليه حال الناس، فأكّد عدم حب البؤس والتّباؤس.. فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله جميل يحبُّ الجمال، ويحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده)، وعندما سُئِل كيف؟ قال: «ينظِّف ثوبه، ويطيِّب ريحه، ويُحسِّن داره». وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (أحسنوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس). وقد دخل الإسلام في التّفاصيل، عندما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ليأخذ أحدكم من شاربه، والشّعر الذي في أنفه، وليتعاهد نفسه، فإن ذلك يزيد في جماله)، وقد ورد عنه أيضاً: (من اتخذ شعراً، فليحسن ولايته أو ليجزّه).

تجليات الجمال

هذا في جانب الشكل والمظهر الخارجي، ولكن الإسلام من خلال تربيته لنا على الاتزان لم يكتف بذلك، بل راح يتحدّث عن كل ما يتمّم جمال المظهر، ليحدّثنا عن جمالٍ آخر، ولذا كان الدعاء: «اللّهمّ فكما حسّنت خلقي فحسِّن خُلقي»، وعمّم مفهوم الجمال، ليكون ‏الجمال جمال اللقاء، في الابتسامة وطلاقة الوجه، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر).
والجمال جمال الأخلاق، والتّواضع هو زينته، والجمال جمال العقل، والفكر السّليم زينته… واتجهت الدعوة الى اقران الجمال بكل شيء، فالصبر ينبغي ان يكون جميلاً، وهو الصبر بلا شكوى أو تأفف...
وجمال اللسان هو بصواب القول بالحق والخير، أو الصمت.. وجمال العبد الطاعة.. وجمال المعروف في اغاثة الملهوف وتنفيس المكروب.. وجمال المؤمن في ورعه.. وجمال الروح بالشكر وصفاء النية.. وجمال الاحسان ترك الامتنان والأذى.. وجمال الجدال: {وجادِلْهُمْ بِالّتِي هِي أحْسنُ} (النحل: 125). وحتّى في الهجر، فالجمال مطلوب، قال تعالى: {واصْبِرْ على ما يقُولُون واهْجُرْهُمْ هجْراً جمِيلاً} (المزمّل: 10)، وهو الإعراض الذي لا عتب فيه ولا مخاصمة... وجمال النقد الوعظ سراً.
وقد أوصى الإسلام بالتّوازن وعدم المبالغة أو الاستغراق في هذه الأمور باللّهاث وراء صيحات الجمال، والهوس في عمليات التجميل والتجمل.. الجمال مطلوب، ولكن ليس الى حد الإسراف أو عدم التوازن.. فالجمال قيمة لا يمكن أن تبرز وحدها، بل هي تشع ويتألق بريقها وسط قيم التعقّل والتّواضع والرزانة والوقار والرضا والقناعة، والأهم هو الالتزام الدقيق للأحكام الشرعية، وهذا ما لابد من تأكيده.