قراءة في الإساءتين ـ الشيخ علي حسن

قال تعالى في شأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الجمعة:2. ومن المعلوم لكل مسلم أنه لابد أن تتوافر في الأنبياء عليهم السلام عموماً مجموعة من المميزات ليكونوا مؤهلين للقيام بمهامهم التبليغية والإرشادية والرسالية والقيادية، وذلك من قبيل الإحاطة العلمية بأمور الدين وما يتعلق بشؤون الهداية، والسلوك القويم والأخلاق الرفيعة وغير ذلك.
وتأتي صفة الحكمة ـ في القرآن الكريم ـ لتكون واحدة من أبرز مميزات الأنبياء عليهم السلام وذلك بلحاظ مهامهم التبليغية والإرشادية والقيادية، وكلها مهام تحتاج إلى الحكمة. قال تعالى في شأن الأنبياء من آل إبراهيم عليهم السلام: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) النساء: ٥٤. وفي شأن النبي داود عليه السلام: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ... وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) ص:17-20. وفي شأن النبي عيسى عليه السلام: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ، وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ) آل عمران: 48-49. وهذا يعني أن من يتحمل مسؤولية المُلك والقيادة ومسؤولية الرسالة والهداية بحاجة ماسة إلى الحكمة.
حكمة العلماء والمبلغين:
وبما أن العلماء ورثة الأنبياء وقد أنيطت بهم مهام الرسالة والتبليغ والإرشاد بل وحتى القيادة أحياناً، فإنهم بلا شك بحاجة إلى الحكمة أيضاً، ولا يكفي أن يحوزوا على مقدار من الاطلاع والمعارف والعلوم لكي يكونوا مؤهلين للنهوض بتلك الأعباء. ويشترك في ذلك معهم المبلغون وأئمة المساجد والخطباء، فالمهمة المشتركة بينهم جميعاً هي الهداية والقيادة ولو في إطار محدود، كقيادة إمام الجماعة للمصلين، وقد تصل إلى درجة قيادة مجتمع بأكمله.. علاوة على أن المقام الذي يحظى به أصحاب هذه العناوين من احترام وتقدير، بل وتقديس أحياناً، يدفع عامة الناس نحو اتباعهم والاقتداء بهم.. ولك أن تتخيل النتائج المترتبة على اتباع صاحب أحد هذه العناوين في الوقت الذي يفتقر فيه إلى الحكمة، والنتائج الوخيمة التي سيجنيها المجتمع من سوء استخدامه للموقع الذي يحتله والمتداد الذي يمثله مما قد يتجاوز حدود مجتمعه. هذا فضلاً عن أن الحكمة ليست نتاج التعلم والمطالعة واكتساب المعارف فقط، بل هي نتاج التفكير العميق والبصيرة النافذة والتجارب والخبرات الكثيرة التي تصقل الإنسان في شخصيته وتفكيره وسلوكه في إطار الحكمة.
الإساءة لأم المؤمنين:
في هذه الأيام حدثان بارزان تناقلتهما وسائل الإعلام، الأول ما أثير حول الإساءة للسيدة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، والثاني قضية إحراق المصحف الشريف. ومن المعروف أن لدى المسلمين الشيعة ملاحظات حول بعض مواقف أم المؤمنين على عهد النبي والتي صدرت بدافع الغيرة، وهو ما نجده في الأخبار المبثوثة في كتب المسلمين، ومواقف أخرى على عهد أمير المؤمنين علي ثم ابنه الحسن عليهما السلام في ما يخص حرب الجمل وشؤون الخلافة. ولكن هذا شئ والقذف والتعرض للأعراض والسب وعقد المجالس الخاصة بذلك شئ آخر، ومباين تماماً لأصول البحث العلمي والسرد التاريخي، وهو ليس من الإسلام في شئ ـ ولا من التشيع الذي نعتبره الامتداد للقرآن والسنة النبوية ـ لا على مستوى العقيدة ولا الشرع ولا السلوك ولا الأخلاق.. وأين الحكمة في كل ذلك؟ فالتبعات ـ لاسيما في عصر الاتصالات وسرعة نقل المعلومات اليوم ـ كثيرة ولا يمكن أن تحد بحد ظرفي ولا بحدود مكانية.
لقد شهد التاريخ الإسلامي فتن دامية، كتلك التي وقعت في بغداد في القرن الرابع الهجري، و راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناس حرقاً وقتلاً، ودُمِّرت فيها أحياء، بسب تصرفات جاهلة واستفزازات مذهبية سخيفة.
وها نحن في هذا العصر قد شهدنا ـ ومازلنا نشهد ـ أعمالاً إرهابية يقتل فيها الأبرياء في العراق وأفغانستان وباكستان، وتم شرعنتها بذريعة سب الصحابة والتعرض لأمهات المؤمنين بالسوء من القول.
وهل يريد (شيعة علي) أن يكونوا أكثر غيرة على قادتهم ومعتقداتهم من إمامهم علي عليه السلام؟ وهو الذي ما أن انتهت معركة الجمل حتى سارع بإعادة أم المؤمنين إلى المدينة بكل احترام. علي عليه السلام الذي قال كلمته الفصل في المسألة ـ كما في نهج البلاغة ـ بعد أن بيّن تؤلمه من فتنة الجمل ودور أم المؤمنين فيها، قال: (ولها بعدُ حرمتُها الأولى)!! فهي زوج حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأم المؤمنين. ولكن يبدو أن البعض لا يقرأ، أو لا يقرأ إلا ما يشتهي. ثم هل يرضى أحدهم أن يُساء إليه في عِرضه أو يتم تناول زوجته بسوء أمام الناس، كي يرضاها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
إن هذا الحدث يستدعي بقوة أن تعيد الحوزات العلمية حساباتها بخصوص تلبس طلبة العلم بلباس العلماء واتخاذ صفة المشيخة والإرشاد والخطابة والتبلغ، وأن تضع الضوابط الصارمة لذلك بحيث لا يرتدي هذا اللباس ولا يأخذ هذا العنوان أي أحد إلا بعد تحقيق وتمحيص في المستوى العلمي والتقييم الشخصي أيضاً.
حرق المصحف الشريف:
وأما تهديد القس تيري جونز بإحراق نسخ من المصحف الشريف ـ والتي عُلّقت لاحقاً ـ فلا يأتي من فراغ، بل هو نتاج اتجاه إيديولوجي برزت معالمه بقوة بعد أحداث 11 سبتمبر بعنوان المسيحية المتصهينة، وإن كان حاضراً على الساحة ـ لاسيما الأمريكية ـ ويمارس دوره منذ عقود مضت.
ولذا فإن المسألة لا تعالج ولا تؤخذ على أنها تصرفات شخصية بعيدة عن الحكمة من فرد أحمق وضع نفسه في موقع ديني معين، وهو الدكتور في علوم الأحياء والذي لم يتلق علوم اللاهوت إلا بشكل سطحي وبعد أحداث 11 سبتمبر حيث بدأ في الكتابة الصحفية ليتحول لاحقاً إلى الوعظ في كنيسة لا يحضرها سوى 30 فرداً!! بل لابد من الرجوع إلى جذور القضية والأصل الإيديولوجي للمسألة التي تتبلور في صورة صراع الحضارات النابع من (رؤيا يوحنا)، ذلك السفر الملحق بالأناجيل والذي يروي أحداث آخر الزمان بلغة رمزية، ويصوّر المعركة الفاصلة بين المسيح والمؤمنين به من جهة، وبين اليهود المفسدين والمسيطرين على الأرض من جهة أخرى، على أرض فلسطين في معركة هرمجدون، ليتحقق من خلالها الانتصار الموعود للسيد المسيح وتحقيق دولة الرب على الأرض كلها.
ولن تتحقق النبوءة إلا بعد أن يبلغ اليهود أوج قوتهم وإفسادهم، وبما أن المسلمين اليوم يمثلون حجر عثرة في هذا الطريق، فقد سعى أصحاب هذه الإديولوجيا إلى التحالف مع الصهاينة لتقوية اليهود من خلال إضعاف الإسلام والمسلمين.
هذه العقيدة تدفع أتباعها إلى خلق حالات من الصراع المستمر وبذرائع مختلفة، ولذا فليس من الغريب أن نشهد ظهور الباحثين عن الشهرة الذين يريدون ركوب هذه الموجة، أو العقائديين الذين يعتبرون أن من واجبهم خلق مثل هذه الصراعات، ومن ثم الإساءة إلى النبي الأكرم تارة، وإلى المصحف الشريف تارة أخرى، ولعلهم يسعون للإساءة إلى مقدسات إسلامية أخرى لاحقاً.
والمهم في المسألة هو أن تكون ردود الفعل مدروسة لئلا نقع في الشَّرَك الذي ينصبه لنا أتباع هذا المنهج من أجل إذكاء الصراعات المستمرة، وأن نعمل بالقاعدة القرآنية (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ولا يؤخذ الأبرياء بجريرة المذنبين، وأن يكون هناك عمل إعلامي قوي يفوّت الفرص المستقبلية على هؤلاء ما أمكن.
وأخيراً فإن الإدانات الصادرة على المستوى السياسي العالمي وعلى المستوى الديني المتنوع يعتبر أمراً إيجابياً، إلا أن على الإدارة الأمريكية أن تعي مسئوليتها جيداً في هذا الإطار، وأن لا تتذرع بعنوان حرية التعبير التي كفلها الدستور في مثل هذه الحالات، فقد اتخذت إدارة بوش الإبن بعد أحداث 11 سبتمبر سلسلة من الإجراءات بمخارج وتفسيرات معينة لمواد الدستور، كما غيرت فيها بعض القوانين بذريعة تحقيق الأمن القومي للمجتمع الأمريكي.