فقه أدب التعايش 9 - الشيخ حسين المصطفى

محاكمة العقائد:
مما يؤسف له ان بعض الناس من أنصاف المتفقهين ينصّبون أنفسهم مفتشين عن عقائد الناس، ويصدرون الأحكام يميناً وشمالاً، تكفيراً وتضليلاً أو تفسيقاً وتبديعاً، دون تثبت أو تورع، مع ان تكفير المسلم لمسلم آخر أو تضليله غير منطقي، بل هو أمر خطير ولا يجوز اقتحام هذه العقبة الا بحجة دامغة تقطع الشك باليقين، فلو ان كاتباً أو محاضراً طرح بعض الأفكار التي قد يتراءى منها التشكيك في بعض المسلمات العقائدية لكن لها وجهاً حسناً ومحملاً صحيحاً لا ينافي الاعتقاد فلا يسوغ البناء على الاحتمال الفاسد والحكم على أساسه، فان اليقين لا يزول الا بيقين مثله، والحدود تُدرأ بالشبهات، وصريح القرآن يقول: {ولا تقُولُوا لِمنْ ألْقىٰ اليْكُمُ السّلام لسْت مُؤْمِنًا تبْتغُون عرض الْحياةِ الدُّنْيا} (النساء: 94). في تأكيد بيّن على مبدأ الأخذ بالظاهر، والابتعاد عن محاكمة النوايا التي لا يعلمها الا الله العالم بالسرائر.
فالاسلام قد حمى المسيحيين واليهود وضمن لهم حرية العقيدة والعبادة منذ فجر الاسلام، ولو أعطى الإنسان لنفسه الحق في محاكمة عقائد هؤلاء وفقاً لعقيدته لما بقي مسيحي واحد أو يهودي يعيشون بين أظهر المسلمين حتى اليوم، فكيف نقبل على أنفسنا كمسلمين ان نتقاتل ونسلب من بعضنا ما حباه الله لنا ورسوله من عيش كريم.
ولنعم ما قاله الملا على القاري من علماء الحنفية في القرن الحادي عشر الهجري: (الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف: أنا لا نكفّر أهل البدع والأهواء، الا اذا أتوا بمكفر صريح لا استلزامي، لأن الأصح ان لازم المذهب ليس بلازم. ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وانكاحهم والصلاة على موتاهم ودفنهم في مقابرهم، لأنهم ان كانوا مخطئين غير معذورين وانما بذلوا وسعهم في اصابة الحق فلم يحصل لهم، لكن لتقصير هم بتحكيم عقولهم وأهويتهم واعراضهم عن صريح السنة والآيات من غير تأويل سائغ. وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع، فان خطأهم انما هو لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم، مقاوم لدليل غيرهم من جنسه، فلم يقصّروا ومن ثم أثيبوا على اجتهادهم).
وقال أيضاً: (ذكروا ان المسألة المتعلقة بالكفر اذا كان لها تسعة وتسعون احتمالاً للكفر واحتمال واحد في نفيه، فالأولى للمفتي والقاضي ان يعمل بالاحتمال النافي، لأنّ الخطأ في ابقاء الف كافر أهون من الخطأ في افناء مسلم واحد).