الشريعة والإنسان 2 من 2 - الشيخ علي حسن

خلصت في القسم الأول من الموضوع الى حقيقة مفادها ان الله سبحانه وتعالى لم يجعل الانسان في خدمة الشريعة الاسلامية بل جعل الشريعة في خدمة الانسان بحيث تحقق له مصالحه وتنفي عنه ما يضره وترفع عنه حمل التشريعات الظالمة والباطلة التي لا أساس لها ولم يأمر بها الله سبحانه، أو أمر بها في فترة معينة ضمن ظروف خاصة ثم نسخ حكمها بنزول شريعة الاسلام، كتحريم بعض أنواع الحيوانات وأجزاء من أجساد الأنعام عقوبةً لبني اسرائيل في ظرف خاص.
قال تعالى: {وعلى الّذِين هادُوا حرّمْنا كُلّ ذِي ظُفُرٍ ومِن الْبقرِ والْغنمِ حرّمْنا عليْهِمْ شُحُومهُما الّا ما حملتْ ظُهُورُهُما أوِ الْحوايا أوْ ما اخْتلط بِعظْمٍ ذٰلِك جزيْناهُم بِبغْيِهِمْ وانّا لصادِقُون} (الأنعام: 146.(
انتصار أم عفو:
ومما يؤكد حقيقة ان الله تعالى انما جعل الشريعة لتخدم مصالح الانسان النماذج التالية من التشريعات المرتبطة بمواجهة الانسان لبعض الأوضاع الحياتية الخاصة، وذلك من قبيل:
-1 رد الاعتداء بمثله، قال تعالى في مدح المؤمنين {والّذِين اذا أصابهُمُ الْبغْيُ هُمْ ينتصِرُون، وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مِّثْلُها فمنْ عفا وأصْلح فأجْرُهُ على اللّهِ انّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِين} الشورى: (40-39). فالله يترك القرار للمظلوم، وليقدّر المظلوم الموقف بنفسه، بدراسة الأوضاع المحيطة به، والنتائج المترتبة على القرار، وبمراعاة مشاعره ومشاعر المرتبطين بالقضية، وفي النهاية فان لكل موقف قيمته عند الله، سواء اختار المظلوم الانتصار لنفسه أم العفو.
مقياس الشرف في التشريع:
ففي التشريع الاسلامي يكون السلوك الفردي للانسان نفسه هو الذي يرفعه أو يحطّه أمام الله وأمام الآخرين، والمسؤولية والمحاسبة والعقوبة تخصه ولا تنتشر الى أسرته وأقربائه وعشيرته، قال تعالى: {ولا تكْسِبُ كُلُّ نفْسٍ الّا عليْها ولا تزِرُ وازِرةٌ وِزْر أُخْرى} (الأنعام: 164). وعلى هذا فليس من المشروع ما يجري ضمن الأعراف العشائرية في بعض المجتمعات الاسلامية من استتباع جريرة الرجل بالحكم على بعض بناته أو أخواته بما يسمى بـ(الفصل العيني) حيث تُزوج المرأة قسراً من أحد أقرباء المجني عليه، بل أحياناً عندما تكون الفتاة صغيرة يتم حجزها وتزويجها لذلك الشخص عندما تكبر، وكثيراً ما تُعامل الفصلية بعد الزواج على أنها كائن منبوذ ويتم استحقارها من قبل الزوج وأهله. وقد تمتد آثار تلك الجريرة بحيث يتم نبذ أسرة الجاني بأكملها اجتماعياً وأمثال ذلك من الاجراءات التي توسّع دائرة المسؤولية لتشمل من لا علاقة لهم بها.
علاقة المسلم بغيره:
فقد راعت الشريعة الاسلامية التنوع العقائدي الحاصل في المجتمعات الانسانية، ولذا كان من الحساسية بمكان معالجة قضية العلاقات الانسانية في المجتمع الواحد بما يعود بالنفع على الانسان الملتزم بالشرع، وبما يحقق السلم الأهلي والأمن الاجتماعي. ولذا أبقت الشريعة الاسلامية العلاقة العامة بينهم في الاطار الانساني ما دام ان الآخر المختلف عقائدياً لم يعلن الحرب، واعتبرت بالتالي ان كل صور الخيانة والغش والخداع والمكر والنفاق ممنوعة.. أما اذا رفع لواء العداء والمحاربة فان العلاقة ستحكمها معايير أخرى. قال تعالى: {لا ينْهاكُمُ اللّهُ عنِ الّذِين لمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيارِكُمْ ان تبرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا اليْهِمْ ان اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِين، انّما ينْهاكُمُ اللّهُ عنِ الّذِين قاتلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأخْرجُوكُم مِّن دِيارِكُمْ وظاهرُوا علىٰ اخْراجِكُمْ ان تولّوْهُمْ ومن يتولّهُمْ فأُولٰئِك هُمُ الظّالِمُون} (الممتحنة: 9-8)
طبيعة العلاقة بالعبادة:
فلم تُرد لنا الشريعة ان نستغرق في العبادة وننسى ما يحيط بنا من واقع، أو نرهق أنفسنا بها الى الحد الذي تتحول فيه العبادة الى شئ غير مقبول نفسياً، أو بحيث نوحي للآخرين بصعوبة الانتماء لهذا الدين الذي يقهر الانسان في جو عبادي ويغلق عليه منافذ الحياة الأخرى. ففي رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: «ولا تبغّض الى الناس عبادة ربك». وعن علي عليه السلام: (ان للقلوب شهوة واقبالاً وادباراً فأتوها من قِبل شهوتها واقبالها، فان القلب اذا أكره عمي). وفي حديث عن الصادق عليه السلام: (مر بي أبي بالطواف وأنا حدث وقد اجتهدت في العبادة فرآني وأنا أتصابّ عرقاً فقال لي: يا جعفر يا بني، ان الله اذا أحب عبداً أدخله الجنة ورضي عنه باليسير).
والخلاصة ان النماذج العامة والخاصة التي استعرضناها هنا وفيما سبق تقدم لنا اجابة واضحة حول الأساس الواقعي للتشريع الاسلامي بشكل عام، وأن الشريعة وجدت لخدمة الانسان.