البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع (37) ـ حسين الشامي

قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الاُْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، وأُولئِكَ قَلِيلٌ).
نتابع شرح هذه الفقرة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، ومحورها صفات القاضي:
وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ :وتعني هذه الكلمة من العهد الشريف أن يكون القاضي ، واسع الصدر ، صبورا لسماع المترافعين وجدل المتخاصمين ، وينبغي عليه أن يحسن الإصغاء للطرفين ، وان لا يسأم ، ولا يضجر من تصرفاتهم ، ولجاجة بعضهم ، أو تماديه في العناد ، وأن يمتلك القدرة على التحمل ويصبر على الاستماع والتعب والمراجعة ، حتى يتبين له وجه الصواب ، وينكشف حكم القضية المطروحة بين يديه وينبلج الحق كضوء الصبح لذي عينين .
وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأمُورِ: هناك بعض القضايا المعقدة المطروحة بين يدي القاضي ولا يتضح الحكم فيها رغم كثرة الأدلة والقرائن والمستندات، إنما تحتاج إلى مزيد من الوقت والصبر، حتى تتبين الحقائق من خلال المراجعة والتدقيق والتأمل، وربط الموضوعات والأحداث والقرائن، وهنا يدخل الزمن كعنصر من العناصر المساعدة لكشف حقيقة القضية المطروحة. ومن هنا يجب على القاضي أن يتمتع بالصبر والتحمل حتى تتجمع خيوط الحكم والقضاء بالتدريج، وبعدها يصدر الحكم النهائي في القضية وفق مقاصد الحق والعدل والقانون. والصبر هنا لا يعني الاستسلام للواقع المعقد، إنما يعني التأمل والقدرة على التحمل لهذا الواقع.
وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ: وَأَصْرَمَهُمْ: أي اقطعهم للخصومة وأقواهم في تحمل مسؤولية نتائج الحكم، وأمضاهم عزيمة في إحقاق الحق بعدما تبين من دون تردد أو وجل، ولا يخشى في ذلك لومه لائم.
مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ: فعلى القاضي أن لا ينخدع بالإغراءات أو الترهيب والتحريض، والحرب النفسية والإشاعات، فيحجم عن إصدار الحكم المستوفي لشروطه ولوازمه.