الإمام الباقر وقاعدة الجري ـ الشيخ علي حسن

(... والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية، لمات القرآن؛ ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين) .بهذه الكلمات قدّم الإمام محمد بن علي الباقر، وهو خامس الأئمة من آل البيت عليهم السلام (ت114هـ) قاعدة مهمة من قواعد فهم القرآن الكريم، تفتح فيه آفاقاً جديدة، وتجعله كتاباً نابضاً بالحياة، متحركاً مع متغيرات الزمان.
قاعدة الجري:
وقد اصطلح بعض المفسرين لاحقاً على هذه القاعدة عنوان (قاعدة الجري) استيحاءً للكلمة من مضمون الحديث السابق وأحاديث أخرى، كالمروي عن الفضيل قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام ـ أي الباقر ـ عن هذه الرواية "وما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع"، ما يعني بقوله "لها ظهر وبطن" ؟ قال: ظهرُه تنزيلُه وبطنُه تأويلُه، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعدُ، يجري كما يجري الشمس والقمر).
مفاد هذه القاعدة يرجع إلى أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا تكون أسباب النزول مخصِّصة لمداليل الآيات إذا كانت لها حسب المنطوق والملاك عمومية من الدلالة. وفي ذلك قال العلامة الطباطبائي: (ما ورد من شأن النزول لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها، لأن البيان عامّ والتعليل مطلق، فإنّ المدح النازل في حقّ أفراد من المؤمنين أو الذمّ النازل في حقّ آخرين معللاً بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخرين بعدهم وهكذا).
مثال أهل الذكر:
قدّم الإمام الباقر عليه السلام أمثلة على هذه القاعدة في ضمن ما روي عنه، فقد سئل عن قول الله عز وجل: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل:43، قال: (نحن أهل الذكر). وهذا من باب الجري لا التفسير وبيان سبب نزول الآية. قال العلامة الطباطبائي في تفسيره: (الخطاب في الآية ـ على ما يفيده السياق ـ للمشركين من الوثنيين المحيلين للرسالة ـ أُمِروا أن يسألوا أهل الذكر، وهم أهل الكتب السماوية، هل بعث الله للرسالة رجالاً من البشر يوحى إليهم؟ ومن المعلوم أن المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن معنى لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن، لأنهم لم يكونوا يقرّون للقرآن أنه ذِكر من الله، فتعيَّن أن يكون المسؤول عنه ـ بالنظر إلى مورد الآية ـ هم أهل الكتاب، وخاصةً اليهود).
تطبيق القاعدة:
ولكي تتضح كيف يمكن تطبيق قاعدة الجري قال: (وأما إذا أخذ قوله "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" في نفسه، مع قطع النظر عن المورد ـ ومن شأن القرآن ذلك ومن المعلوم أن المورد لا يُخصَّص بنفسه ـ كان القول عاماً من حيث السائل والمسؤول والمسؤول عنه ظاهراً.. وأما المسؤول فإنه وإن كان بحسب المفهوم عاماً فهو بحسب المصداق خاص وهم أهل بيت النبي عليه وعليهم السلام.. وقد قارنهم صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن، وأمر الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلاً: إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض..).
خطأ فادح:
وقد وقع بعض من عارض أمثال تلك الرواية، وكذلك مَن أخذ بها، في خطأ فادح حين اعتبروها من التفسير، فالتفسير هو الشرح وكشف المراد عن اللفظ، وأما قاعدة الجري التي قدّمها الإمام الباقر عليه السلام فلا تسعى إلى ذلك، بل تهدف لتقديم تطبيقات متجددة للآيات، وهذا ما دفع العلامة الطباطبائي بعد الفقرة السابقة إلى أن يقول: (ومما قدمناه يظهر فساد ما أورده بعضهم على الأحاديث أن المشركين الذين أمِروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من أهل بيته؟).
أمثلة أخرى:
روى العياشي في تفسيره عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى: (ولِكُلِّ قَومٍ هَاد) الرعد:7، أنه قال: (عليٌّ الهادي، ومِنا الهادي. فقلت: فأنت ـ جعلت فداك ـ الهادي؟ قال: صدقت، إن القرآن حي لا يموت...).
وفي قوله تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) العنكبوت:49 روى أبو بصير: أن الإمام الباقر قرأ هذه الآية وأومأ بيده إلى صدره.
وفي قوله تعالى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) الجن:16، قال: (يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من ولده وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماء غدقاً، يعني: أشْربنا قلوبهم الإيمان، والطريقة: هي الإيمان بولاية علي والأوصياء).
وفي الآية: (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الذاريات:50، قال عليه السلام: (حجوا إلى الله عزوجل).
علاقة الجري بالتفسير:
ولابد من التأكيد على أن الجري لا يأتي من فراغ، وليس من الحقائق الأجنبية والبعيدة عن اللفظ، إذ ليس للكلمة معانٍ باطنية متعددة بعيدة عن المعنى اللغوي، وإنما هو معنى واحد ذو إيحاءات متنوعة نصل إليها من خلال الظاهر نفسه. ولذا نؤكد على أن تجاوز الظاهر في محاولة للتعرف على البطون، يشكّل انحرافاً وخروجاً على قواعد قراءة النص، وقد يوقع صاحبه في متاهات الباطنية وشطحاتهم التأويلية التي لا ضابط لها، كما أنّ فهم العلاقة بين الباطن والظاهر بمثابة الضابطة التي تحول دون تسلل الأفكار الباطنية التي يسعى أصحابها إلى التفلت من ظاهر الشريعة وأطرها، تحت عنوان ابتناء القرآن على ثنائية الظاهر والباطن، من قبيل تفسير الصيام بالإمساك عن كشف السر، والجنابة بأنها إفشاء السر للمريد قبل الاستحقاق، أو موالاة العدو وما إلى ذلك.