العفو.. فاليوم من رمضان - الشيخ علي حسن

روى السيد ابن طاووس في كتابه (الاقبال) عن الامام جعفر الصادق عليه السّلام ان الرابع من أئمة أهل البيت علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، اذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة، واذا أذنب عبد له أو أمة يسجّل ذلك عليهم، فاذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها، فيقول لهم: قولوا يا علي بن الحسين ان ربك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا كل ما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر كبيرة ولا صغيرة الا أحصاها، وتجد كل ما عملت له حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك ويصفح..وهو واقف بينهم يبكي ويقول: (ربنا انك أمرتنا ان نعفو عمن ظلمنا، وقد عفونا كما أمرت، فاعفُ عنا فانك أولى بذلك منا ومن المأمورين).ثم يقبل عليهم ويقول: (لقد عفوت عنكم، فهل عفوتم ما كان مني اليكم؟ اذهبوا فقد أعتقت رقابكم طمعاً في عفو الله وعتق رقبتي من النار)..فاذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتعينهم عما في أيدي الناس.وكان يقول عليه السّلام: (ان لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار، فاذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه، واني لأحب ان يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا رجاء ان يعتق رقبتي من النار).

اختيار وقصد:

العفو أمر اختياري، فنحن لسنا مرغمين على العفو عن أي شخص ألحق بنا الضرر، ومن جهة أخرى فان العفو لا يأتي بمحض الصدفة، بل هو ناشئ عن قرار يتخذه الانسان بارادته..فحين يلحق بك أحدهم الأذى فان الاختيارات أمامك ستكون عديدة:
1 - استمرار الغضب وافرازاته النفسية السيئة واجترارها التي قد تظهر تبعاتها مباشرة على الصحة الجسدية.
2 - تحوّل الغضب الى صور مختلفة من الانتقام.
3 - كُمُون حالة الغضب في النفس ثم انفجاره في لحظة ما، وتحوّله الى سلوك عنيف أو قلق أو اكتئاب وما الى ذلك، فتتقيح جراحات الماضي وتفسد علينا حاضرنا.
4 - التعقد من التعامل مع الناس وانعكاس ذلك على السلوك الاجتماعي عند الفرد.
5 - الشفقة على من أخطأ في حقنا دون ترتيب أي أثر على ذلك.

آثار ودلالات:

ولكن عندما تختار بمحض ارادتك ان تعفو عن المخطئ، حين يكون العفو هو القرار السليم (العفو يفسد من اللئيم بقدر اصلاحه من الكريم..الامام علي) فان هذه الحالة الاختيارية والنابعة عن قصد وارادة وتفكير ذات دلالات وتأثيرات في عدة مستويات:
1 - التخلص من الماضي حتى تتفرغ لمعالجة الحاضر.
2 - الراحة النفسية عند الترفع عن الدخول في المهاترات.
3 - تجنب الآثار السلبية العديدة لتفجّر الغضب أو احتقانه.
4 - الاحساس بالاقتراب أكثر من الصفات الانسانية والتعاليم الاسلامية، وبالتالي من تحقيق رضا الله سبحانه.(اذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه..الامام علي عليه السلام).
5 - امكانية التأثير في المخطئ كي ينتقل من خانة العداء ان كان ما صدر عنه عن عمد الى خانة الولاء.(تعافوا تسقط الضغائن بينكم..النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم).
6 - اكتشاف مكامن القوة في النفس، لأن العفو يظهر القوة التي تتمتع بها.(عليكم بالعفو، فان العفو لا يزيد العبد الا عزا، فتعافوا يعزكم الله..النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم).
7 - مساعدة الآخرين على اتخاذ ذات القرار العفو من خلال النموذج العملي الذي تقدمه لهم، لتؤكد لهم ان العفو ممكن وفي متناول اليد..تماماً كما ان الانتقام ممكن..وكما ان اجترار الآلام ممكن..ولكن الفرق بينهما كالفرق بين الثريا والثرى.(قلة العفو أقبح العيوب، والتسرع الى الانتقام أعظم الذنوب..الامام علي عليه السلام).
8 - توقّع الثواب والرحمة الالهية الدنيوية والأخروية.(اذا عنت لكم غضبة فادرؤوها بالعفو، انه ينادي مناد يوم القيامة: من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم الا العافون، ألم تسمعوا قوله تعالى: فمنْ عفا وأصلح فأجْرُه على الله..من كثر عفوه مد في عمره..عفو الملوك بقاء المُلك..تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء الأقدار..النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم).

كلمات معبّرة:

يقول الدكتور (فريد لوسكين): (ان العفو هو شعور بالطمأنينة التي تتأتى عندما تتعامل مع ألمك بدرجة أقل شخصية، وكذلك عندما تتحمل المسؤولية عن مشاعرك، وتصبح في القصة التي ترويها بطلا بدلاً من ان تكون الضحية.ان العفو لا يغيّر الماضي، لكنه يغيّر الحاضر.والعفو يعني أنك اخترت ان تتألم وتعاني بدرجة أقل حتى لو كنت مجروحاً.كما ان العفو يعني ان تصبح جزءاً من الحل وأن تفهم ان الألم جزء طبيعي من الحياة.ان العفو ملك لك وليس لأحد آخر..اننا نلجأ الى العفو لأنه أمر جيد لنا ولمجتمعنا.فعندما نعفو، فاننا بذلك نساعد أنفسنا ونقدم قدوة للآخرين..ان تنظيف أذهاننا من المظالم القديمة يعد أمراً مفيداً للصحة الذهنية والوجدانية والبدنية).

حلاوة العفو:

شهر رمضان شهر التغيير، فجرّب ان تعفو عن المخطئ من موقع القدرة، وتذوّق حلاوة العفو، وارجُ العفو من الله جزاءً وفاقاً.