خطبة الجمعة 29 شوال 1444- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: المذهب الجعفري

- يطرح البعض إشكالية مفادها أن الغالبية العظمى مما روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) جاءت عن طريق رجال من الكوفة، بينما كان الإمام يعيش في المدينة المنورة، وهذا يدلّ على أن هذه المرويات مكذوبة عليه، ولذا فإنّ أُسسَ المذهب الذي يُنسَب إليه -بحسب هؤلاء- أُسسٌ مدَّعاة عليه، وحتى مسمّى المذهب الجعفري يغدو مسمّى باطلاً.
- لو أخذنا كتاب الكافي مثالاً، ففيه أكثر من 16 ألف رواية، من بينها -بحسب ما أحصاه البعض- أكثر من 9 آلاف عن الإمام الصادق (ع)، أي ما يقارب 56%.
- ويمكن الردّ على هذه الإشكالية بما يلي:
1. لا خلاف على أن الإمام الصادق (ع) عاش معظم حياته في المدينة المنورة، ولكنّ شيعته من أهل الكوفة وغيرِهم كانوا يستفيدون من فرصة سفرهم للعمرة والحج للقاء الإمام والأخذ عنه والحصول على إجابات لأسئلة الكوفيين منه. وروايات التقاء الكوفيين به أو بأبيه (ع) في المدينة أو أجواء الحج بمكة والمشاعر، والأخذ عنهما كثيرة جداً.
- نموذج على ذلك ما في الكافي بالسند عن هاشم صاحب البريد قال: (كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب مجتمعين... قال: فلما حججتُ دخلت على أبي عبد الله [ع] فأخبرته بذلك، فقال: إنك قد حضرت وغابا، ولكن موعدكم الليلة، الجمرة الوسطى بمنى....) وهؤلاء الثلاثة جاءوا من الكوفة.
2. كان الإمام الصادق (ع) يحرّص على ضرورة أن يلتقي به شيعته ضمن موسم الحج، سواء أ كان الإمام حاجاً ومتواجداً في مكة والمشاعر، أو لم يكن، فتتم زيارته في المدينة.
- وقد روى المجلسي في (بحار الأنوار) عدة روايات بهذا المضمون، كما وعقد في الجزء
96 منه باباً بعنوان (أنّ مِن تمام الحج لقاء الإمام)، ومما رواه عن الصادق (ع) قوله: (إذا حجَّ أحدُكم فليختم حجَّه بزيارتنا، لأنّ ذلك مِن تمام الحج).
3. استقر الإمام (ع) في الكوفة (والحيرة القريبة منها) لفترة من الزمن قد تبلغ السنتين، ويبدو أن ذلك كان في الأساس باستدعاء من قِبل أبي جعفر المنصور، والرواية التالية شاهد على ذلك، ففي كتاب (تهذيب الكمال) للمزي، وهو من كتب أهل السنة: (قال حسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة، وسُئل: مَن أفقه مَن رأيت؟ فقال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد. لمّا أقدَمَه المنصور الحيرةَ، بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة إنَّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد، فهيّئ له من مسائلك الصعاب. قال: فهيَّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة، فدخلت عليه، وجعفر جالس عن يمينه فلما بصُرتُ بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلّمت وأذن لي فجلست، ثم التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبد الله تعرف هذا؟ قال: نعم هذا أبو حنيفة. ثم أتبعها: قد أتانا. ثم قال: يا أبا حنيفة، هات مِن مسائلك نسأل أبا عبد الله. وابتدأتُ أسأله، وكان يقول: في المسألة أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا) أي علماء أهل المدينة من المذاهب الأخرى (ونحن نقول: كذا وكذا... حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخْرَم منها مسألة) أي لم يفوِّت منها مسألة دون جواب (ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أن أعلمَ الناس أعلمُهم باختلاف الناس؟).
- ما إن استقرّ الإمام الصادق (ع) بالحيرة والكوفة حتى صار قِبلة لأهل العلم وطلّابه، ومن مختلف التوجّهات، بمن فيهم أصحاب وأئمة المذاهب في ذلك الوقت، وبشهادة المصادر السنية والشيعية، ومن الشواهد ما في (الصواعق المحرقة) لابن حجر الهيتمي: (نَقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيتُه في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر، كيحيى بن سعيد، وابن جريج، والسفيانين) الثوري وابن عيينة (وأبي حنيفة، وشعبة، وأيوب السختياني).
- وقال الجاحظ في (الرسائل): (جعفر بن محمد، الذي ملأ الدنيا علمه وفقهَه، ويقال: إنَّ أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب).
- في كتاب (مختصر التحفة الإثني عشرية في الرد على الشيعة الإثني عشرية) والأصل للدهلوي، والمختصر للألوسي: (وهذا أبو حنيفة (رض) وهو هو بين أهل السنّة، كان يَفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان. يريد السنتين اللتين
صحب فيهما ـــ لأخذ العلم ـــ الإمامَ جعفرَ الصادقَ رضي الله تعالى عنه).
- وصنّف الحافظ الزيدي أبو العباس بن عقدة الهمداني كتاباً حول مَن روى عنه (ع) مِن الشيعة وغيرهم، فكانوا أربعةَ آلاف، وأخرج فيه لكل رجل الحديث الذي رواه.
- وفي (إعلام الورى) للطبرسي: (قد تضافر النقل‌ بأنّ الذين‌ رووا عن‌ أبي‌ عبدالله‌ جعفر بن‌ محمّد الصادق‌(ع) من‌ مشهوري‌ أهل‌ العلم‌ أربعة‌ آلاف‌ إنسان. وصُنّف عنه أربعمائة كتاب معروفة عند الشيعة، تُسمّى: الأصول، رواها أصحابُه وأصحابُ ابنه موسى (ع))‌.
- وفي كتاب (مناقب ابن شهراشوب): (عن محمد بن ميمون الهلالي قال: مضيتُ إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد (ع) ثلاثة أيام، فما كان لي فيه حيلة لكثرة الناس، فحيث كان اليوم الرابع رآني فأدناني وتفرّق الناس عنه، ومضى يريد قبر أمير المؤمنين....).
- هذه كانت مجرّد شواهد على أهمية الفترة التي استقرّ فيها الإمام الصادق (ع) في الحيرة والكوفة وما أُخِذ عنه مِن العلم خلالها، بما يُبطل الإشكال المطروح.
- وقد كان لاستقرار الإمام هناك أثرٌ مهم في عودة الروح إلى المدرسة العلمية التابعة لأهل البيت (ع).
- فقبل استقرار الإمام علي (ع) في الكوفة، استقر فيها عدد من الصحابة، ومن بينهم عبدالله بن مسعود الذي صار أبرز وجه علمي فيها، وأخذ عنه الفقه عددٌ من التابعين، وأخذت عنهم الطبقة التي تليهم، وهكذا واستمرّت مدرسته بالنماء حتى كان من نتاجِها ظهور مذهبي أبي حنيفة، وسفيان الثوري. وأطلق الدكتور المصري (علي سامي النشار) على هذا المسار عنوان (المدرسة السنّية في الكوفة).
- ومع استقرار الإمام علي (ع) لبضع سنوات في الكوفة، ظهر مسار آخر أسماه النشار: (المدرسة الشيعية في الكوفة)، وهو المسار الذي تعرّض للضعف الشديد نتيجة الظروف السياسية والأمنية وممارسة التغيير في التركيبة السكانية في الكوفة، وغياب من يرعاه.
- ولم تكن علاقة شيعة الكوفة بالأئمة (ع) عن بُعد كافية لعودة المسار الشيعي بشكل واضح وقوي، في مقابل الأجواء التي كانت تنشط فيها مدرسة أبي حنيفة وسفيان الثوري وغيرهما بشكل قوي، لاسيّما بلحاظ حضورهما في الكوفة بنفسيهما.
- بل إننا نجد أن شخصيات علمية بارزة آنذاك من أتباع (المسار الشيعي) قد أخذوا من فقهاء المسار الآخر، وتأثّروا بفقههم ومدرستهم، ومن أمثلة ذلك تأثُّر (أبان بن تغلب) التابع للمسار الشيعي بمدرسة أبي حنيفة الفقهية.
- مما سبق يتّضح لنا أهمية استقرار الإمام الصادق (ع) في الحيرة والكوفة، ولو لفترة قصيرة نسبياً، في بثّ الروح في مدرسةِ أهلِ البيتِ العلمية، وتوضيحِ معالمِها، وإكسابِها مساراً بيِّناً مِن خلال بروزِ الفقهاءِ والعلماءِ والأساتذة، وانتشارِ المصنَّفات التي تمّ تَدوينُها وتكثيرُها ممّا أُخذ ورُوي عنه، وبما يُبطلُ الشبهة التي طرحَها البعضُ حولَ كَثرة مرويّات الكوفيين عنه (ع)، بينما كان مُستقرُّه وموطنُه في المدينة المنورة. وحقٌّ -بعد هذا- أنْ نُدرك لماذا صار عنوان (الجعفرية) عنواناً مستحَقاً لأتباع هذه المدرسة التي أراد النبي (ص) لكل المسلمين أن ينهلوا منها، وأن تكون هي مرجعيّتهم في أخذ معالم الدين بعد كتاب الله العزيز حيث قال (ص): (إنِّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي، أحدُهما أعظمُ من الآخَر، كتابَ الله، حبْلٌ ممدودٌ من السَّماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يتفرَّقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ، فانظروا كيف تَخلُفوني فيهما).