وريث الأنبياء - الشيخ علي حسن

{وتِلْك حُجّتُنا آتيْناها إبراهيم علىٰ قوْمِهِ نرْفعُ درجاتٍ مّن نّشاءُ ان ربّك حكِيمٌ علِيمٌ، ووهبْنا لهُ اسْحاق ويعْقُوب كُلًّا هديْنا ونُوحًا هديْنا مِن قبْلُ ومِن ذُرِّيّتِهِ داوُود وسُليْمان وأيُّوب ويُوسُف ومُوسىٰ وهارُون وكذٰلِك نجْزِي الْمُحْسِنِين، وزكرِيّا ويحْيىٰ وعِيسىٰ والْياس كُلٌّ مِّن الصّالِحِين، واسماعِيل والْيسع ويُونُس ولُوطًا وكُلًّا فضّلْنا على الْعالمِين، ومِنْ آبائِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ واخْوانِهِمْ واجْتبيْناهُمْ وهديْناهُمْ الىٰ صِراطٍ مُّسْتقِيمٍ، ذٰلِك هُدى اللّهِ يهْدِي بِهِ من يشاءُ مِنْ عِبادِهِ ولوْ أشْركُوا لحبِط عنْهُم مّا كانُوا يعْملُون، أُولٰئِك الّذِين آتيْناهُمُ الْكِتاب والْحُكْم والنُّبُوّة فان يكْفُرْ بِها هٰؤُلاءِ فقدْ وكّلْنا بِها قوْمًا لّيْسُوا بِها بِكافِرِين، أُولٰئِك الّذِين هدى اللهُ فبِهُداهُمُ اقْتدِهْ قُل لّا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْرًا ان هُو الّا ذِكْرىٰ لِلْعالمِين} الأنعام: 90-83

الكرامة الإبراهيمية:
كانت كرامة الله لإبراهيم الخليل من بعد نوح عليهما السلام ان جعل النبوة في ذريته حتى وصلت الى النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما بيّنته الآيات السابقة التي قدّمت سلسلة من الأنبياء وكأنها قسمتهم الى مجاميع بحسب ما امتازت به كل مجموعة، فمنهم من برز في مجال القيادة والموقع المتقدم الذي جعل الناس يتبعونه كحاكم لهم بعنوانٍ أو بآخر كداود وسليمان، ومنهم من امتاز بالجانب الروحي كزكريا ويحيى وعيسى، ومنهم من واجه الابتلاء الشديد كاسماعيل ويونس.

الاقتداء بهديهم:
ثم جاء الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فبِهُداهُمُ اقْتدِهْ)، فكل من سبقك يا محمد وان اختلف معك في بعض تفاصيل الشريعة، الا ان المنهج واحد والرسالة واحدة والهدف واحد.ولم يرد الله للأنبياء ان يعيشوا همّ الذات في حركتهم بحيث يبحث كل نبي عن موقع متقدم على النبي الذي سبقه أو من سيأتي بعده، ولا هم كانوا كذلك، بل كان همُّ الرسالة هو الهمُّ الذي يحملونه ليكون كل نبي حلقة في السلسلة المباركة للهداية.
ونحن مطالبون ألا نستغرق في ذوات الأنبياء كأشخاص، بل نستغرق فيهم كهدى وكمنهج وكرسالة، ولعل في التعبير ب (فبِهُداهُمُ اقْتدِهْ)، ولم يقل (فبهم اقتده) اشارة الى ذلك.ثم ليس المطلوب منا ان نبحث في مقامات الأنبياء لنفضِّل أحدهم على الآخر، وان كان التفاضل بينهم حقيقة، لأن ذلك قد يدفعنا الى الخصام والانقسام فيما بيننا، ولأن مسألة المفاضلة لله وليست لنا، ولندِّخر تفكيرنا لما أرادنا الله ان نخوض معرفته.

لا أجر مادي:
ثم جاءت الآيات لتؤكد ان هدى الله في جهود الأنبياء منحة لا يريدون من ورائها أجراً مادياً أو شخصياً، وذلك لعدة أمور:
-1 لئلا تتحول الرسالة والهداية الى سلعة تخضع الى الكثير من المساومات والتنازلات والمجاملات على حساب المبدأ والهدف، كما هو الشأن في عالم التجارة.
-2 لتحسيس الناس بأن الهداية حقُّهم، وما كان حقاً للانسان فانه لا يُدفع في مقابله أجر، وما كان حقاً للانسان فمن العقلائي ان يطالِب به، وأن يسعى ويبذل الجهد للحصول عليه.
-3 وما دام هو حق لي، فهو حق للآخرين، وهذا يعني ان من مسؤوليتي ان أوصل للآخرين ما اهتديت اليه بما أستطيع.

مسؤولية العلماء:
هذه العناوين وهذه الروحية عاشها كل الأنبياء، ومن بعدهم الأئمة، ثم كان على العلماء في نطاق مسؤولياتهم التي تمثلت في أنهم ورثة الأنبياء ان يطبقوا ذات العناوين وأن يعيشوا ذات الروحيات.ومن مسؤولياتنا ألا نستغرق في ذات العلماء كما لا نستغرق في ذات الأنبياء، بل ان نتتبع رسالتهم، كي:
-1 لا تتحول المسألة الى مسألة تعصّب لهذا المرجع أو ذاك.
-2 لا نعيش التفاضل بينهم من خلال العناصر الذاتية في ما يحمله العالم من عنوان كونه من نسل النبي أو فقدانه ذلك، وفي القومية التي ينحدر منها، أو في الحوزة العلمية التي تخرج منها أو بوجود فيها.فالمهم هو ما يملكه العالم من تقوى وعلم وخلق، وفيما يقدمه من عطاء بحجم المسؤوليات الضخمة في كل مناحي الحياة.

فضل الله العالم القدوة:
والحقيقة ان المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله عاش تلك العناوين وتلك الروحيات بكل صفاء ووضوح، فقد عاش الرسالة، ولم تكن تهمه ذاته، ولا العنوان الذي يحمله، ولا موقعه بين من سبقه أو من يليه، ولا الأجر الذي قد يفكر البعض في ان يقدموه له على ما يبذله من عطاء لم يكن ليهدأ، وهو الذي كان يعتبر الراحة بالنسبة اليه، بل بالنسبة للآخرين أمراً ممنوعاً في هذا الزمن المليء بالتحديات.بل حتى في أصعب الظروف النفسية والجسدية، وفي أجواء الحرب، كان عطاؤه بالتأليف والتوجيه والافتاء والبحث العلمي والفكري ومتابعة شؤون الناس هو همّه الأكبر وشغله الشاغل، لأنه كان يؤمن ان الزمن الذي سيبقى فيه في هذه الدنيا الفانية زمن قصير في مقابل حجم المسؤولية وحجم العطاء وحجم الطاقة التي كانت تتفجر في داخله فتنطلق في كلماته وكتاباته وأفكاره وكل حركته..رضوان الله تعالى عليه.