خطبة الجمعة 2 رمضان 1444- الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مسلسل اصطناع الأديان

- مجدداً عاد إلى السطح -وبشكل محموم- الحديث عن (الديانة أو الدين الإبراهيمي)، ودخل على الخط الأزهر الشريف الذي أصدر بياناً رسمياً بهذا الشأن قبل أسبوع.
- المقترَح المدَّعى -بكل بساطة- يتمركز حول دمج الإسلام والمسيحية واليهودية في دين واحد، ولا أدري هل هذا الاقتراح حقيقي، أم مجرد تخمينات، أم محاولة جس نبض الشارع العربي والإسلامي، أم ثرثرة من ثرثرات وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الافتراضي؟ ولكن مع هذا، فإن المسألة بحاجة إلى وقفة.
- قبل سنتين، وفي أجواء زيارة بابا الفاتيكان للنجف الشرف، تحدثْتُ عن جانب ممّا أثير آنذاك حول هذا الموضوع، وذلك في خطبة حملت عنوان (الدين الإبراهيمي)، وعن التحذير الذي أطلقته باحثة مصرية قبل سنوات بخصوص وجود مشروع استخباراتي غربي يدعو لاختزال الإسلام والمسيحية واليهودية في دين واحد، هو الدين الإبراهيمي.
- ويقال أن المبادرات الغربية السابقة التي جاءت باسم مشروع (المسار الإبراهيمي) Abraham Path و(الاتحاد الفدرالي الإبراهيمي) وقبل ذلك (ميثاق إبراهيم)، وغيرها من المبادرات إنما تستهدف في نهاية المطاف الدعوة لتأسيس هذا الدين الجديد.
- ومجدداً لا أستطيع -من خلال متابعتي- تأكيد هذا الأمر أو نفيه، ولكننا نملك شواهد تاريخية ما زالت حاضرة عملت فيها دوائر سياسية ومخابراتية غربية على اصطناع أديان في الوسط الإسلامي، السنّي والشيعي معاً، وبوقت متزامن تقريباً.
- في القرن التاسع عشر حين اجتاحت موجاتُ اليأس الإيرانيين آنذاك جراء هزيمتهم في الحرب مع روسيا، وبسبب الفقر، والجهل الثقافي، وفي ظل البحث عن الخلاص على يد الإمام المنتظر، قامت المخابرات الروسية بزراعة عميل لها في إحدى الحوزات العلمية.
- وبتدرجه في الدراسة المتخصصة، وبوسائل خبيثة متعددة، استطاع التأثير على أحد طلاب العلم فيها وإقناعه بأن يدّعي أنه باب الإمام المهدي، ووكيله الخاص، ثم تطوّر الأمر حتى ادّعى أنه الإمام المهدي نفسُه، ثم ادّعى النبوة وألّف كتابه «البيان» الذي نسخ فيه شريعة الإسلام، فأحدث بذلك انشقاقاً وفتنة دينية وسياسية وأمنية في إيران، أدّت إلى إعدامه، فظهر من بعده تلميذُه (حسين علي النوري) الذي أعلن ولادة الدين البهائي.
- وبعد سقوط الحكومة القيصرية في روسيا وانقطاع مساعداتها للبهائيين، تحوّلت البهائية إلى أحضان المخابرات البريطانية آنذاك، وتم توظيفها لخدمة أغراضها الخاصة.
- وفي المقابل، وفي القرن التاسع عشر أيضاً، تم اصطناع دين آخر في البنجاب، عُرف باسم القاديانية والأحمدية، وذلك على يد ميرزا غلام أحمد الذي ادّعى أنه المهدي المنتظر والمسيح الثاني الموعود في نفس الوقت، وأنكر أن محمداً (ص) خاتم الأنبياء.
- الطريف أنه أعلن إلغاء الجهاد، وحرَّم الثورة ضد الإنجليز في الهند معتبراً أنهم (ولاة أمر تجب طاعتهم)، وأن تعطيلَ الجهاد الإسلامي أهمُّ أهدافه، وقال: (إنّ مجرد الإيمان بي، إنكارٌ للجهاد). والآن، خليفتهم الخامس مقيم في لندن، وأما حال البهائية فمعروف.
- هذه التجارب، وتوجد مثيلات أخرى لها، تجعلنا -ولو نظرياً- لا نستبعد وجود مخطّط أو فكرة تستهدف الدعوة لإقامة دين جديد يحمل عنواناً جذاباً هو (الدين الإبراهيمي)، مما يستلزم الحذر والتوعية، خاصة توعية بعض الشباب الذين يحبّون الصرْعات الجديدة، وكذلك الذين قد يقعون ضحايا عناوين جذّابة ومحبَّبة إلى النفوس من قبيل: التسامح الديني، وإنهاء الحروب والصراعات، والسلام، والعيش المشترك، والمحبة الإنسانية.. إلخ.
- وما يجعلنا نشكّ أكثر في ما وراء المبادرات التي أشرت إليها، والتي قد تستهدف أيضاً الإعلان عن الدين الإبراهيمي هو توظيف كل ذلك لصالح التطبيع مع الكيان الصهيوني.
- ما يجب أن نتذكّره ونؤكّد عليه مجدّداً هو أنّ الدّين لا يُؤسَّس في مراكز الدراسات الاستراتيجية والدوائر المخابراتية، لأنّ الدّينَ صُنعُ الله سبحانه: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى:13]، مع ضرورة الحذر من العناوينَ الرنّانة والشعاراتِ البرّاقة التي تنطلق من خلالها حملاتُ الترويجِ الإعلامية لمشاريعَ من قبيلِ الدين الإبراهيمي. إنّ المسارَ السليمَ الذي نؤمنُ به هو ما رسمه القرآن الكريم حيث قال تعالى وكأن الآيات نزلت اليوم غضّةً لتوضّح للمسلمين الموقف السليم أمام كل ما يُثار في هذه الأجواء: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ، هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ، وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران:64-74]، هذه هي الصورة الحقيقية للمسألة، وهذا هو الموقف المطلوب.