رحلت جسداً وبقيت روحاً وفكراً - د.عبدالله عادل بهبهاني

من أصعب المواقف هو ان تقف لترثي شخصاً عزيزاً..ولكن الأصعب هو ان يكون ذلك الشخص بمعزة وعظمة السيد فضل الله.فلو أطلت في ذكر مزاياه وسجاياه فلن أبلغ المأمول، فقد تميز الفقيد المقدس بالعمق الفقهي والتبحر العلمي الذي اهّله لأن يكون مرجعاً للتقليد مع شجاعته في طرح ما يصل اليه عقله الحر دون أن يشكل الاحتياط حاجزاً يمنعه عن الافتاء بالرأي الذي يعتقد بصحته، إضافة الى غزارة التأليف بكتبه التي رفدت وأثْرت المكتبة الإسلامية في مجالات متعددة دون ان يقتصر ذلك على كتب الفقه والأصول، بل تعداها الى الفكر والسياسة وهموم المجتمع والأمة، فضلاً عن احتضان المقاومة والدور الكبير في رفع الراية ضد الاستكبار والاستبداد ملهماً المقاومين وداعماً المستضعفين وأباً للبدريين.
كما تميز باعطاء بُعد جديد للمرجعية وتواصلها المباشر مع الجميع دون حواجز ووسائط واستغلال المناسبات لتحقيق ذلك التواصل، من خطب الجمعة الجامعة للدين والسياسة والندوات الأسبوعية والمواظبة على استغلال مواسم الحج ليلتقي المؤمنين من شتى أصقاع المعمورة يتلمس همومهم ويتعرف على حاجاتهم ويشفي صدورهم باجاباته الصريحة الواضحة.
ثم انه تجاوز ذلك لينطلق في خطوات عملية عملاقة نحو بناء مشروع المرجعية المؤسسة منفذاً لا منظراً..لقد أعاد المرجع الراحل رسم وصياغة صورة المرجعية الرشيدة كاسراً للحواجز المصطنعة الموروثة ومتجاوزا للخطوط الحمراء المتجذرة فكان ثائراً على ذلك كله في فقهه وفكره وعمله ومواقفه السياسية وقربه من الناس، فكان العداء له، وكانت الظلامة..كان العداء لأن الشجرة المثمرة هي التي تُرشق بالحجارة..وكان التشويه والكذب والتدليس لأن الخوف كل الخوف من الجديد الآسر للقلوب..وكان الاغتيال الفكري بعد ان فشل أسلوب التصفية الجسدية، وكانت الحرب على منهجه وسيلة تبتغي ارباك الوعي بغية ارباكه واشغاله بالدفاع عن مواصلة مسيرة تحرير العقول ونفض الغبار المتراكم في إرثنا..ولكن ذلك كله لم يؤثر في السيد وحركته..فلقد صمد وصبر وفي النهاية انتصر..انتصر الحب على الحقد..والتنوير على الظلام..والوعي على التخلف.
وما حظي به الراحل العظيم عند رحيله دليل على هزيمة دعاة التحجر والصنمية وفشل حملتهم الظالمة..
يا أباعلي..لقد رحلت جسداً ولكنك باق فكراً وروحاً..فقد تركت لنا (خطوات على طريق الإسلام) نقتفي أثرها..و(بينات) نهتدي بهديها..و(وحي قرآن) نتدبر فيه كلما قرأنا كتاب الله..فآثارك ستبقيك خالداً وعزاؤنا فيك قول أمير المؤمنين عليه السلام: (مات خزّان المال وهم احياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة)..سيدي وإن غاب الجسد، سيبقى فكرك النير يشع فينا ليهدينا، وروحك الطاهرة ترفرف علينا وتلهمنا.