شهادة للتّاريخ - جابر سيّد خلف البهبهاني

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النّحل:120].

«نلتقي بشخصيَّة إبراهيم(ع)، الّتي تتجمّع فيها خصائص الإنسان الّذي تعيش الأمّة فيه وتمتدّ منه حركة الرّسالة، وتلتقي في أجوائه الرّوحيّة، روحيّة الجامعة في صورة الفرد»، هكذا فهم ووعى فقيدنا الرّاحل العلامة المجاهد، آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله (قدّس سرّه)، هذه الآية الكريمة في تفسيره "من وحي القرآن"، فكان إبراهيميّاً في انطلاقته كما كان في نسبه، فأصبح أمّةً في قضاياه وهمومه وعطائه، انطلق مقتدياً بجدّه رسول الله(ص) الّذي قال فيه الإمام أمير المؤمنين(ع): «طبيب دوَّار بطبِّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه». انطلق، فلم يترك ميداناً من ميادين الحياة إلا وله فيه صولة وجولة، ناكراً في ذلك ذاته، جادّاً متجهّداً، متفانياً في عطائه، لا تأخذه في الله لومة لائم.

فكان الآية العظمى في الفقه، والعلم الهادي في الفكر، والنّاقد المهذّب في الكتابة، والعقل المنفتح في الحوار، والفيض المتدفّق في الأدب، والأستاذ الخبير في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والفارس المقدام في الجهاد، والبطل المجاهد في المقاومة، والأب الرّؤوف للأيتام، والرّاعي الرّحيم للمحتاجين، والإنسان المحبّ في علاقاته، وفي هذا يصدق عليه قول الشّاعر الّذي قال في جدّه الإمام أمير المؤمنين(ع)، الّذي بعد أن عدَّد مناقبه:

قالت أكلّ الّذي قد قلت في رجلٍ فقلت كلّ الّذي قد قلت في رجل

هذه وبدون مبالغةٍ هي مجرَّد عناوين لعطاء الفقيد الرَّاحل، ومعرفتي بها معرفة دراية وليست رواية... وما سأقوله في هذه الكلمات القليلة، هو شهادةٌ هو في غنى عنها، ولكنّها شهادة للتَّاريخ، والحقيقة أنّ من الصّعوبة أن تتكلَّم عن ثلاثين عاماً في كلّ يوم فيها له عطاء وإنجاز، ما يوقعك في حيرةٍ عمّا تتكلّم؟ وماذا تترك؟ وقد حاولت أن أسدّ بعض الفراغ الّذي لم يذكر في سيرته.

في تعليقٍ لأحد المعزّين للفقيد الكبير تساءل: كيف استطاعت هذه الشّخصيّة العظيمة أن تقدّم كلّ هذا العطاء؟ فهو من المراجع الّذين ندر مثيلهم في الآثار التي خلّفها؟ وجوابي هو أنّ هذه الشّخصيّة حرمت عليها الرّاحة، فقد كان الفقيد يعمل وبدون مبالغة لمدّة عشرين ساعةً في يوم، ففي موسم الحجّ والمؤتمرات، كان برنامجه اليوميّ يبدأ من بعد صلاة الفجر بالدّروس والمحاضرات واللّقاءات، بل وحتى أثناء تناوله الوجبات، كنت تجد المحبّين متحلّقين حوله يتحاورون معه، وهكذا كان إلى آخر اللّيل، وحتى إذا كان يستأذننا ليذهب إلى النّوم، كنّا إذا دخلنا عليه نجده إمّا يقرأ أو يكتب، وكان مرافقوه يقولون لنا إنّ هذا الذي ترونه إنما هو إجازة له بالمقارنة بما يقوم به في لبنان.

وأذكر في مؤتمر من المؤتمرات في الولايات المتّحدة، خصّص يوماً للردّ على الأسئلة، وجلس لمدّة ثلاث ساعات متواصلة يردّ فيها على الأسئلة، وفجأة أنهى الأسئلة وسارعت لأخذه إلى الغرفة المخصّصة له، وقال إنّه كان يودّ الاستمرار، إلا أنّه شعر بانقطاع النفس من التّعب لم يمكّنه من الاستمرار، فقلت له: سيّدنا أكثرها أسئلة مكرّرة يمكنك تجنّبها، فقال لي، إنّ هذا السائل قد يكون قطع مئات الكيلومترات فقط ليسأل هذا السّؤال، فليس من الإنصاف أن لا أردّ على سؤاله، وما إن دخل غرفته ليستريح، حتى أتى بعض الإخوة يطلبون لقاءه، وحاولت الاعتذار لهم لأنّ سماحة السيّد متعب، ولكن أمام الإلحاح، دخلت على سماحته وأخبرته، فسمح لهم باللّقاء، وامتدّ إلى أكثر من ساعة. وكأنّه في بذله لهذه الجهود، يريد أن يكون مصداقاً لدعاء كميل الّذي كان يقرأه لنا بصوته العذب الشّجيّ، والذي يحتوي الفقرة: «اللّهمّ اجعل أوقاتي من اللّيل والنّهار بذكرك معمورةً، وبخدمتك موصولةً».

أمّا عن بطولته وجهاده، فتعلمون أنّ بداية انطلاقة الفقيد في لبنان تكاد تكون متزامنةً مع الحرب الأهليّة فيه، هذه الحرب التي حوّلت لبنان إلى غابة من الأسلحة، بحيث كان القويّ فيه يقهر الضّعيف، وكانت الظروف الأمنية متشنّجة، تجعل من ليس لديه سلاح في مهبّ الرّيح، أو تجبره على الرّضوخ والخنوع. ولكنّ الفقيد البطل المجاهد، واجه هذه الظّروف القاسية بكلّ قوّةٍ وشجاعةٍ، فلم يرضخ ولم يخنع، بل صمد وتحدّى، وبإمكاناتٍ جدّ متواضعةٍ أشبه ما تكون بمن يواجه ذئاباً مفترسةً بعصاه، ولكنَّ عصا الفقيد المجاهد كانت كعصا موسى(ع) التي التهمت كلَّ مؤامرات الاغتيال أو الإسقاط المتعدِّدة.

وكان أخطر هذه المؤامرات، هو الانفجار المرعب في بئر العبد الذي راح ضحيّته أكثر من ثمانين شهيداً، كان الإجراء الأمنيّ الطّبيعيّ مقابل هذا الانفجار المرعب، أن يتوارى الفقيد عن الأنظار ولو بضعة أيّام، ولم يكن أحد يلومه على ذلك، ولكنّ شجاعة الفقيد أبت ذلك، وحبّه للنّاس دفعه إلى مواساتهم في مصابهم، فخرج في ثاني يوم الانفجار ليكون في مقدّم موكب تشييع شهداء الانفجار، وخطب في الجماهير بعد الانتهاء من التّشييع، وأوّل ما أوصاهم به هو الوحدة والتّماسك، فلم تقيّد هذه المؤامرات حرّيّة انطلاقه، وكان يلبّي جميع الدَّعوات من داخل لبنان وخارجه، وعندما نتحاور معه في ضرورة تخفيف السّرعة في الانطلاق، كان يقول هذا ما يريده المتآمرون، وسوف لن أعطيهم الفرصة لذلك. ما أروعك يا شبل حيدرة الكرّار، سقطت عند أقدامك كلّ المؤامرات وخضعت.

كانت كلّ هذه المؤامرات بسبب موقفه الرّافض للكيان الصّهيونيّ، والرّافض لأن يكون لبنان ملعباً لعبث الطّغيان والاستكبار، وقد سمعتم وقرأتم في رقدته الأخيرة على فراش المرض، أجاب من يقوم برعايته عندما سأله: هل أنت مرتاح؟ فأجاب: لن أرتاح إلا بزوال الكيان الصهيونيّ. دعم المقاومة ضدّ هذه الكيان الصّهيونيّ المجرم بكلّ ما أوتي من قوّة، ولم يغفل عنها طرفة عين، وكما قلت، لم يرضخ للتّرهيب، كما لم يضعف أمام التّرغيب الّذي عرض عليه بغطاء دعم مشاريعه الخيريّة، أحد هذه العروض كان ثلاثة عشر مليون دولار، وكان البطل المجاهد يعلم ما يخفي هذا العرض، فقد كان بمثابة الطّعم الّذي ستتبعه ملايين أخرى لو قبلها، ولكنّه رفضها بكلّ حسم.

وها هم أبطال المقاومة، وفي مقدَّمهم سماحة السيّد حسن نصر الله، يفتخرون بأنّهم كانوا من تلامذته، وأنّه شملهم برعايته، وأنّه كان القدوة لهم في شجاعته وبطولته وتحدّيه وفكره، وقد كان هو أيضاً يفتخر ويعتزّ بهم، ودائماً ما كان يناديهم بأبنائه الّذين ربّاهم وساندهم، ومنذ بداية الثّمانينات، كنّا نشهدهم يتوافدون عليه في موسم الحجّ، وأوّلهم كان الشّهيد السيّد عبّاس الموسوي، رحمه الله.

ولم تكن مفاجأةً للعارفين بتاريخ البطل المجاهد مع المقاومة، أن يكون سكنه الخاص من أوائل الأهداف التي قصدها القصف الإسرائيليّ الهمجيّ في حرب تمّوز 2006، وكان على الرّغم من اعتلال صحّته في تلك الأيّام، يظهر على شاشة التلفزيون، يناصر المقاومة ويعينها، في وقت عزّ النّاصر وقلّ المعين، وأطلق على أبطال المقاومة لقب البدريّين، لأنهم وازنوا ميزان القوّة في المنطقة، بعد أن كان الكيان الصهيونيّ مستفرداً بقوّته في المنطقة، كما فعلها المسلمون في بدر عندما كانت الجاهليّة مستفردةً بأرض الجزيرة.

وكما قلت لكم: يصعب التكلّم عن شخصيّةٍ عظيمةٍ مثل هذه في دقائق معدودةٍ، ووددت لو أتيح لي المجال للتكلّم عن المشاريع الخيريّة، ولكن على عجالةٍ، كانت بداية جمعيّة المبرات الخيريّة بتأسيس مبرّة الإمام الخوئي (رضوان الله عليه)، وتوسّعت إلى ما يقارب ثلاثين مسجداً ومبرّات للأيتام ومؤسّسة تعليميّة وتأهيليّة وثقافيّة. في إحدى الزّيارات اطّلعت على بعضها، فرأيتها غايةً في دقّة التّنظيم، تتبع أحدث الأنظمة الإداريّة والتربويّة، والمكسب الّذي قد لا يعلمه الكثير، إضافةً إلى الخدمات التي تقدّمها إلى المجتمع، هي الخبرات الإداريّة والتّنظيميّة التي تأهّلت في هذه المؤسّسات، ما يجعلها في مصاف المؤسّسات الدّوليّة في مجالها.

وعندما سألت السيّد الفقيد عن سبب هذا النّجاح قال: لم أتدخّل في تفاصيل أعمالهم، وأعطيتهم حرية التصرّف واتخاذ القرار ضمن الإطار المحدّد لهذه المؤسّسات، واحتفظت بدور المراقب والمستشار، فلو تدخّلت في التّفاصيل، لأصبحوا عبئاً عليّ بدل أن يكونوا معينين لي، وهذا يدلّ على عقليّة السيّد الفقيد الإداريّة الرّاقية التي تحاكي أحدث النظريّات الإداريّة. لله درّك يا سيّدنا العزيز! بكت الأيتام والأرامل والأسر المحتاجة كما بكوا من قبلك جدّك أمير المؤمنين(ع)!

اللّهمّ هذا عبدك المسكين قد نزل بك وأنت خير منزول به، اللّهمّ لا نعلم منه إلا خيراً، فرحماك يا ربي رحماك بهذا السيّد الجليل، رحماك يا ربي رحماك بهذه الآية العظمى، رحماك يا ربي رحماك بهذا الأستاذ الخبير، رحماك يا ربي رحماك بهذا البطل المجاهد، رحماك يا ربي رحماك بهذا الإنسان المحبّ، رحماك يا ربي رحماك بهذا المظلوم المقهور.

ويا سيّدنا، حسبي فيك قول الشّاعر في الإمام الحسين:

تبكيك عيني لا أجل مثوبة لكنّما عيني لأجلك باكية

و{إنّا لله وإنّا إليه راجعون}.