خطبة الجمعة 28 جمادى الآخرة 1444: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: بَسنا مطر!

- قبل عدة سنوات، كنت في زيارة لإحدى الدول العربية في موسم الشتاء، وكانت المدينة التي أزورها بطبيعتها صحراوية جافة، وقد نزلت عليها الأمطار قبل أيام قلائل، وبينما كنت أستقلّ سيارة أجرة، فإذا بالسائق يدعو بأن لا ينزل المطر بعد اليوم!
- أثار هذا الدعاء الغريب فضولي واستنكاري في نفس الوقت، فسألته عن سبب دعائه فقال: لو كنتَ هنا حين نزل المطر قبل أيام وشاهدتَ كيف دخلت مياه الأمطار إلى بيوتنا، وكيف أصبح حال شوارعنا لما استغربتَ دعائي. وحين ذكرت لبعض الأصدقاء من أهل تلك المدينة ما جرى لي مع سائق السيارة أثنى على كلامه وأيّده!
- ما الذي يصل بالإنسان في بيئة صحراوية جافة أن يتمنّى انقطاع المطر الذي كان وما زال يدفع بالمسلمين للخروج إلى الصحراء لأداء صلاة الاستسقاء أملاً في نزوله؟
- على امتداد التاريخ البشري، ولشدة حاجة الناس للمطر، ونتيجة لما كان يستتبع انقطاعُه أو ندرتُه من آثار مدمّرة تصل إلى حدّ هلاك الإنسان والحيوان والنبات، اخترعت المجتمعات البشرية آلهة خاصة بالمطر، يتوسّلون إليها ويُقدّمون لها القرابين، بما في ذلك القرابين البشرية، ومن أبنائهم!
- فقد كان للأزتك في المكسيك -مثلاً- إله للمطر اسمه (تلالوك)، وهناك جبل يحمل هذا الاسم، ويشتهر بينابيعه وكثرة مياهه، ويتواجد فيه أعلى معبد لإلههم، وهناك كانوا يقدِّون القرابين البشرية من الأطفال دون السابعة، والغاية... ضمان نزول المطر!
- وفي منطقتنا العربية هناك الإله (بعل)، حتى أنك تجد اليوم في بعض بلاد الشام مَن يصف النباتات والثمار التي تظهر من دون زراعة باسم (بعل)، وكأنها عطية منه.
- وكلنا نقرأ في القرآن قصة النبي يوسف (ع) والتحدّي الخطير الذي واجهته مصر نتيجة الجدب، وكيف جاء تأويل يوسف لرؤيا الملك، وكذلك الحل الذي قدّمه، بمثابة طوق النجاة في مواجهة هذه المشكلة المهلكة، فارتقى -بسبب مشورته هذه- إلى أعلى المراتب.
- والأمثلة على أهمية المطر بالنسبة إلى الإنسان -عبر التاريخ وإلى اليوم- كثيرة جداً، ويكفينا أن الله سبحانه يُسمّي المطرَ غيثاً، حيث قال تعالى في مقام الامتنان على الإنسان: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28]... المطر إغاثة للإنسان، هكذا يصفه الله تعالى، وهو فعلاً كذلك.
- ونعود للسؤال من جديد.. ما الذي يدفع بإنسان معاصر في منطقة باركها الله سبحانه بالنعم والخيرات حتى أنها كانت مهد الحضارات البشرية والابتكارات قبل آلاف السنين، أن يدعوَ ويتمنى انقطاع المطر بدلاً من أن يستفيد منه، وأن يبتكر طرقاً لتقليل مخاطر وسلبيات المطر الشديد، كما فعل اليابانيون -في هذا العصر- بابتكار طرق لبناء بيوتهم لمواجهة كثرة الزلازل وتخفيف أخطاره؟! الجواب بكل بساطة: الفساد.
- هل تنقصنا العقول والطاقات البشرية المبدعة؟ أبداً... قبل ثلاثة آلاف سنة تقريباً، قام أهل اليمن ببناء سد مأرب، هذا السدّ الذي عدّه باحثون معجزةَ تاريخ شبه الجزيرة العربية، وقد ذكره القرآن الكريم بصورة غير مباشرة وذلك حين ذكر الآثار الإيجابية لوجوده، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ:15]، فوظفوا مياه الأمطار وواجهوا مخاطر السيول الناجمة عنها.
- وسبقت هذا السدّ سدود أخرى أُنشئت قبله بمئات السنين، إلا أنّ سدّ مأرب يمتاز بحجمه وطريقة تصميمه وبنائه... فالمسألة ليست مسألة نقص في العقول المبدعة أو الطاقات البشرية الخلاقة، ولا المواد الأولية، ولا الثروات الطبيعية التي أنعم بها الله سبحانه على المنطقة ككل حتى صارت نهباً للمستعمرين.. المسألة في جانب كبير منها: الفساد.
- الفساد يؤسِّس للظلم... الفساد يأتي بالمسئول غيرِ الكُفء... الفساد يَقضي على الفُرص السانحة للتنمية... الفساد يُبدِّد الثروات الطبيعية ويسلب بركة النعم والخيرات والأموال... الفساد يدفع إلى التراخي والإهمال والتخلّي عن المسئولية... الفساد يُحبط أصحاب الطاقات الخلاقة... الفساد يُهجِّر العقول المبدعة... الفساد يُحطِّم الهِمم... الفساد عدوّ الشباب.
- وبكلمة واحدة: عندما يستحكم الفساد السياسي والإداري والقضائي، فالنتيجة الطبيعية لذلك أنْ يرفعَ الإنسانُ يديه -كما فعل صاحبُنا سائقُ سيارةِ الأجرة- ليقول بكل توجّه: الله احرِمنا نِعمةَ المطر، واقطَع عنا غيثَ السماء، وجَفِّف ينابيعَ رحمتِك! فهل هناك بؤس وتعاسة أكثر مِن ذلك؟ ويا خوفي أن يأتي يومٌ ونرفع أيدينا في وطننا هذا لندعوَ بمثل هذا الدعاء، بعد أن كان أهلُه يخرجون لصلاة الاستسقاء.