سيّد المحبّة المسيحيّة الإسلاميّة - الأب أنطوان ضو

غياب المرجع العلاّمة السيّد محمد حسين فضل الله خسارة إسلاميّة مسيحيّة، وطنيّة وعربيّة.

بوفاته نفتقد عالماً كبيراً، ومجتهداً كرّس حياته لخدمة الإسلام والمسلمين وفكرهم وقضاياهم وغدهم، وبالتّالي خدمة كلّ إنسان في لبنان والعالم العربيّ.

فكره الإسلاميّ المضيء في الفضاء الإنسانيّ والإسلاميّ والوطنيّ والعربيّ، ونهجه العقلانيّ والنّقديّ، ومواقفه الإسلاميّة والفكريّة والثّقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والتّربويّة والوطنيّة، كلّ ذلك جعله مرجعاً للجميع، ومعلّماً بكلامه ومثاله.

كان رجل الإيمان والانفتاح والاعتدال والتّواضع واللّطف والهدوء والتّسامح والأخلاق والحوار والكلمة والمصالحة بين الدّين والعقل والعلم والحداثة.

وكان الدّاعية إلى التقريب بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وجمع كلمتهم، وتحقيق وحدتهم، والدّفاع عنهم، ومناصرة قضاياهم المصيريّة، وفي طليعتها القضيّة الفلسطينيّة التي أولاها بليغ اهتماماته.

كما هو الحسيني الجهاديّ في سبيل الله، الملتزم برسالة الأمّة، والمقاوم كلّ ظلم واستكبار وعدوانٍ واحتلال، ولا سيّما مقاومة العدوّ الصهيوني في لبنان وفلسطين وفي كلّ مكان.

السيّد رائدٌ من روّاد حركة النّهوض الإسلاميّ الشّيعيّ، وركنٌ من أركان الحركة الإسلاميّة المعاصرة، الّذي عمل بفكره النيّر والمنفتح، وسعة معرفته، وصدق نواياه في الاجتهاد، في سبيل تطوير الفكر الإسلاميّ الفقهيّ والسياسيّ، وجعله يواكب التطوّر والتقدّم في عصرنا.

كان في زمن التحوّلات والتغيّرات والقضايا الكبرى علامةً مضيئةً، فأطلق الرّؤى والأفكار العصريّة على أسسٍ علميّةٍ وفقهيّةٍ أصيلة، وعمل من أجل التجدّد والإصلاح والتّغيير والتّطوير.

لقد قدّم فكراً إسلاميّاً معاصراً يحاكي مسلمي العصر في قضاياهم وهواجسهم وتطلّعاتهم ورسالتهم، لينقلهم إلى آفاقٍ إنسانيّةٍ جديدة، وموقعٍ فاعلٍ في عصرهم، وتجديد فكرهم الدّينيّ. لقد صالح بين الدّين والسّياسة، وعمل من أجل تربية إنسانٍ مسلمٍ قادرٍ على حمل الرّسالة والدّفاع عن قضاياه العادلة بحرّيّة وعقلانيّة ومحبّة.

كان العالم الكبير والمجتهد الحكيم الّذي يتحلّى بصفاء العقل والقلب والرّوح، ورمزاً من رموز الحركة الإسلاميّة المعاصرة الّذي كرّس حياته للدّفاع عن حرية الفكر والاجتهاد والعقلانيّة، والأصالة الحقيقيّة، والانفتاح على الآخر والإصغاء إليه واحترامه وقبوله والتّفاعل معه، ونقل الواقع الإسلاميّ في سبيل مجتمعٍ إسلاميّ نهضويّ منفتح ومتوازن.

لقد رفض التطرّف والغلوّ والتزمّت والتديّن الشّكليّ والتكفير، ودعا إلى تحرير عقول النّاس ونفوسهم ومجتمعاتهم من التخلّف والتأخّر والجمود وضيق الأفق.

وانطلق من موقع «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» والعمل الصّالح. ودعا بالعلم والحكمة، والموعظة الحسنة، وكلمة سواء، إلى الحوار البنّاء مع الآخر، والتصدّي بشجاعةٍ للتعصّب والتّمذهب والتّفرقة والانقسام والفتنة.

لم يكن الحوار عنده شعاراً خالياً، ومجاملاتٍ اجتماعيّةً وسياسيّةً، بل كان فكراً نيّراً، وضميراً حيّاً، وإرادةً شجاعةً وصادقة، وفنّاً وأخلاقاً.

في كتابه المرجع «الحوار في القرآن»، رفع الحوار إلى مستوى الرّسالة.

العالم المستنير جعل من الحوار ثقافةً علينا أن نغنيها ونربّي عليها ونعمّمها. فبعد الحوار من أجل التّقريب والتّقارب والوحدة الإسلاميّة، ينطلق إلى الحوار الإسلاميّ المسيحيّ لاكتشاف الجوامع الإيمانيّة، والمشتركات الإنسانيّة والوطنيّة والعربيّة والحضاريّة، لتعزيز العيش الواحد بين اللّبنانيّين، وبين المسلمين والمسيحيّين على مدى العالم العربيّ، وبالتّالي على مدى العالم كلّه.

لقد تحدّث عن قواعد الحوار وأساليبه ومعطياته في كتابه المرجع «الحوار في القرآن»، ورفعه إلى مستوى الرّسالة، لأنّ الحوار يبدأ مع الذّات، وبين الإنسان وصاحبه، وبين الله والإنسان. أمّا الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، كما يقول عنه السيّد، فهو «تحرّك يهدف إلى إغناء الإنسانيّة، فيبرز على المستوى العالميّ القيم السامية التي يلتقي عليها الدّينان في تثمير حركة الإنسان في تطلّعه إلى المستقبل».

أمّا في لبنان، فالحوار يرفع «القضيّة الوطنيّة إلى أعلى مستوى». يقول السيّد: «إذا استطاع المسلمون في لبنان أن يكونوا مسلمين من خلال ما هو معنى الإسلام وعمقه، وإذا استطاع المسيحيّون أن يكونوا مسيحيّين في ما هو معنى المسيحيّة وعمقها، فإنهم يعطون السّياسة معنى في الرّوح وعمقاً في الإنسانيّة».

إنّ الحوار هو طريق الخلاص والسّلام والتقدّم على الصّعيد الوطنيّ والعربيّ والإسلاميّ والمسيحيّ والعالميّ. والحوار الإيجابيّ يقودنا أيضاً إلى بناء حضارة المحبّة: محبّة الله ومحبّة الإنسان. العلاّمة جمع بين عدل الإسلام والمحبّة المسيحيّة. أحبّ جميع الناس، لكنّه أعطى الأولويّة لمحبّة الفقراء والأيتام والمرضى والمستضعفين والمظلومين.

قاوم الحقد ودعا إلى المحبّة قائلاً: «إنّ الحياة لا تتحمّل الحقد. فالحقد موت والمحبّة حياة».

لقد دعانا السيّد المسيح إلى المحبّة قائلاً: «أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم».

والسيّد العلامة أوصانا قائلاً: «أحبّوا بعضكم بعضاً، إنّ المحبّة هي التي تبدع وتؤصّل وتنتج. تعالوا إلى المحبّة بعيداً من الشخصانيّة والمناطقيّة والحزبيّة والطائفيّة. تعالوا كي نلتقي على الله بدلاً من أن نختلف باسم الله».

لقد أحببناه. وبغيابه خسر المسيحيّون في لبنان والعالم العربيّ أباً مسلماً أحبّهم كما أحبّ المسلمين، وسيّداً مستنيراً دافع عنهم بحقّ وشرف كما دافع عن كلّ إنسان مهما كان دينه أو فكره. وهو يدعونا من عليائه إلى العيش معاً بأمان وسلام وعدل ومحبّة في لبنان والعالم العربيّ، الآن وإلى منتهى الدّهر.