شرح نهج البلاغة - الخطبة 23 - القسم الرابع : أقرباؤك سندك في المستقبل

ومن خطبة له عليه السلام وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الأغنياء بالشفقة:
أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ -وَإِنْ كَانَ ذَا مَال- عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ، وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ.
شرح المفردات:
حَيْطة : رعاية
الشَعَث : التفرق والانتشار
لسان الصدق: حُسْنُ الذكر بالحق

شرح الخطبة
بعد الوصايا الخاصة بالفقراء بأن لا يدفعهم فقرهم إلى الكفر بقضاء الله وقدره وارتكاب المحرمات وما ينافي الأخلاق، عرج على تقديم الوصية للأغنياء، فبدأ بالتذكير بأهمية حفظ وترسيخ وتنمية العلاقات الاجتماعية مع الأقرباء
(أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ -وَإِنْ كَانَ ذَا مَال- عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ) في هذه الفقرة رسالة ضمنية حول ضرورة تقديم يد العون للأقرباء بحسب ما تقتضيه الحكمة، فعلى الرغم من أن التقرب إلى الله، والإحساس بحاجة الآخرين لا سيما الأقرباء يجب أن يكون دافعاً تلقائياً لتقديم يد المعونة إليهم إلا أن الإمام (ع) ينبّه إلى دافع آخر متعلق بتحقيق المصلحة المتبادلة على الأقل، وذلك لمن لا يدفعه التقرب إلى الله والجانب الشعوري لرفع معاناة الأقرباء
هذا الدافع يتمثّل في حاجة الإنسان إلى السند والمحامي في المواقف الصعبة وعند مواجهة الخصوم والحساد والباغين، ولربما عند تفرعن السلطة وتجبّرها، وأمثال ذلك، وخير من يقوم بهذا الدور هم الأقرباء، بلحاظ رابط الدم، ويمكن للمساعدة المالية التي يقدمها الغني للفقراء من أٌقربائه أن تكون دافعاً إضافياً لهم لمساندته ورد الجميل له بهذه الصورة. ولذا قال:
(وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ، وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ. )
قال قراد بن العيار المازني
شاعر شرير بذئ اللسان عمر دهرا طويلا، قال الامدي: تجاوز المئة. وكان ابوه (العيار) احد شياطين العرب وشعرائها ايضا.
إذا المرءُ لم يَغضَب له حين يغضبُ
فوارسٌ إن قيل اركبوا الموتَ يركبوا
ولــم يُحْبِــهِ بالنصــر قــومٌ أعـــزّةٌ
مقاحيمُ في الأمر الـذي يُتهيـّبُ
تَهضِمُـه أدنـى العـدوِّ ولـم يــزَل
-وإن كان عضاً- بالظُّلامة يُضرَبُ
فآخ لحال السلم من شئت واعلمن
بأن سوى مولاك في الحرب أجنبُ
ومولاك مولاك الذي إنْ دعوتَه
أجابك طوعاً والدماءُ تصبَّبُ
ثم ينبه الإمام (ع) إلى أن السمعة الطيبة والأثر النفسي الإيجابي الذي يتركه في نفوس الناس -لاسيما الأقرباء- خير له من أن يترك أكداساً من المال لن ينتفع بها بشكل مباشر، لأنها ستنتقل إلى ورثته، وهم المتنعمون بها، فإذا أهمل وظيفته تجاه أقربائه المحتاجين، فإنه سيكون خاسراً من جهتين، خسارة السمعة الطيبة والذكرى الحسنة والدعاء له، وخسارة الاستفادة من هذا المال بموته، لاسيما وأنه لن يحصد خيراً أخروياً من امتناعه عن المساعدة.
(وَلِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ).
ومن وصيّته له عليه السلام للحسن بن علي عليهما السلام، كتبها إليه "بحاضرين"
عند انصرافه من صفّين: (وَأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتي بِهَا تَصُول).
وقد ذكر القرآن الكريم أهمية السمعة الطيبة للإنسان واستمرارها في الحياة وهو المعبر عنه بلسان الصدق: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا، وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا
مريم:49-50
قال العلامة الطباطبائي في الميزان: (اللسان: هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذم، وإذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه).
وجاء ذلك استجابة لدعاء النبي إبراهيم (ع) حيث قال:
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ
الشعراء:83-84