تلاوة وتفسير الآيات1 -10 من سورة الشورى - لماذا تكاد السماوات يتفطرن ؟


- خلال الدعوة في مكة، كانت المشكلة المطروحة في الساحة، هي مسألة الوحي الإِلهي المتمثل بالقرآن، وعقيدة النبوّة باعتبارها الرسالة الإلهية التي يصطفي الله لها بعض عباده.
- ولهذا كان الحديث المتكرر في السور المكية المختلفة حول القرآن حديث الساعة آنذاك، ليثبِّت المؤمنين من جهة، وليواجه الكافرين بالحجة القاطعة من جهة أخرى.
- وهذه السورة واحدة من السور المكية التي تناولت:
1. موضوع الوحي
2. المجتمع الذي نزل فيه القرآن والتحديات التي أطلقها
3. حجج من كانوا يواجهون النبي
4. مضمون الرسالة وما يلتقي به مع الرسالات الأخرى
5. النتائج -الإيجابية والسلبية- المترتبة على الإيمان وعدم الإيمان بكتاب الله سبحانه.
6. عرض بعض صفات الله وآياته الكونية الدالة على سعة قدرته، وضعف كل ما عداه.
لَهُ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ العَظِيمُ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ) تفطّر السماوات بمعنى التشقق.. فلماذا يكاد ذلك أن يصيب السماوات؟ هناك عدة احتمالات ذكرها المفسرون:
1. يكاد السماوات -على عظمتهن- يتشققن من شدّة تسخّرهن فيما يسخّرهُن الله له من عمل لا يخالف ما قدّره الله لهنّ. أي لا تتصوّروا أن استمرار السماوات على ما هي عليه أمر بسيط، فإن في حجمها الذي يفوق التصوّر، والكم الهائل من الموجودات التي تحتويها، والأمور العظيمة التي تحدث فيها من قبل ولادة نجم أو موته، وحركة المجرات، وتمدد الكون وغير ذلك، قابل لإحداث التفطّر ومن ثم التدمير لهذا الكون، ولكنها القدرة الإلهية التي حفظتها على مدى بلايين السنين.
2. يكاد السماوات يتفطرن من كثرة ما فيهن من الملائكة وتصاريف الأقدار، فيكون في معنى ما روي عن النبي (ص) أنه قال: (أَطَّتِ السماء وبِحَقها أن تَئطّ. والذي نفسُ محمّد بيده ما فيها موضع شِبر إلا فيه جبهة مَلَك ساجد يسبح الله بحمده) ويرجّح هذا التأويل تعقيبه بقوله تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ).
3. يكاد السماوات يتفطرن من خشية الله والإِحساس بعظمته. فالسياق في الآيات جارٍ في الحديث عن جوانب عظمة الله، ويوحي بانفعال الكون بتلك العظمة، فهذه المخلوقات الكونية الضخمة التي توحي بالرفعة والعلو والعظمة لا تملك إلا أن تهتز أمام علوّه وعظمته.
4. يكاد السماوات يتفطرن من شرك المشركين من أهل الأرض وافتراءاتهم الباطلة: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) [مريم:88-91].
5. يكاد السماوات يتفطرن بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم، المارّ بهن سماءً سماءً حتى ينزل على الأرض، فإنَّ مبدأ الوحي هو الله سبحانه، والسماوات طرائق إلى الأرض، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) [المؤمنون:17]. ويؤيد ذلك التقييد الوارد في نهاية الفقرة: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ)، فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن، من عند من له العلوّ المطلق والعظمة المطلقة، فلو تفطّرن كان ذلك من فوقهن.

- (مِن فَوْقِهِنَّ) من فوق ماذا؟
1. السماوات، بمعنى: أن انشقاق السماوات يحصل من أعلاهنّ، وذلك أبلغ الانشقاق لأنه إذا انشقّ أعلاهن كان انشقاق ما دونه أولى.
2. الأرض، على تأويل الأرض بأرضين باعتبار أجزاء الكرة الأرضية، أو بتأويل الأرض بسكّانها، كقوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) [يوسف: 82].
3. (مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ) [الشورى:4]، وعندي أن هذا هو أقرب الاحتمالات.
- كما أن الأقرب عندي في تأويل تفطّر السماوات أن يكون ذلك من خشية الله في مقابل ما جاء في تتمة الآية: (وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) فهو تعبير كنائي عن عظمة الله سبحانه، بحيث أن هذه الموجودات العظيمة المهولة في حجمها ومكوّناتها لا تملك سوى أن تخشع له وتكاد تتصدّع من خشيتها، كما أن الملائكة -الذين يملكون عقلاً مُدركاً- يسبّحون بحمده من خشيتهم منه وتعظيمهم له، وهذا شبيه بقوله: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21] فهو مَثَل يقرّب الصورة المعنوية بصورة حسية تجسيدية.
- فما بال هؤلاء القوم لا يخشون الله سبحانه، ولا يخشعون بين يديه، ولا يطيعون أمرَه، ويثيرون كل هذه الكلمات والحجج في مقابل الرسالة والرسول والكتاب المنزَل؟
- (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) وحيث أن الملائكة يدركون عظمة الله، ويخشون معصيته وعواقب ذلك، لذا فإنهم يستغفرون لمن في الأرض، حين يشهدون ما يرتكبه الإنسان من معاصي، لأنهم يعلمون أنه (هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ).
- وهل هذا الاستغفار خاص بالمؤمنين؟ لا دلالة في هذه الآية على ذلك.
- ولكن لربما الآية التالية تدل على ذلك: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7].
- وقد يقال أن هذا استغفار مختلف، بلحاظ صدوره عن حملة العرش ومن حوله، بينما ما نحن بصدده يشمل الملائكة على وجه العموم.. ولكن كيف يمكن تصوّر إقدام الملائكة على الاستغفار للمجرمين والطغاة والظالمين والمعاندين الجاحدين في شركهم وقد نهى الله النبي والمؤمنين عن ذلك: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة:113].
- والذي يقوّي هذا الرأي قوله في الآية السادسة:

وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ 6
- فهذه قرينة على أن استغفار الملائكة يكون للمؤمنين خاصة، أما المشركون فإن الله يحفظ أعمالهم ويحصيها، ويتولى نتائجها السلبية مع ما يؤاخذهم به من عذاب يوم القيامة، وليس للنبي شيءٌ من أمر ذلك.